تقسيم [آل سعود] للشعب
حدثني بعض اهل المعرفة، ممن خبر احوال المستبدين. واطلع على دخائلهم قال :
(ان اهل الاستبداد لما احسوا بضعفهم وقلة حيلتهم بعد ممات ابيهم. اجتمعوا في دار اخيهم الأكبر المسمى محمد، والملقب عند العامة من أهل بلادنا بأبي الشرين . وسبب اجتماعهم ان الناس كانت مخدوعة في ابيهم، فلما مات وتولى ابنه سعود الملك ظهر للناس ما كان خافياً من مفاسدهم، وبدأ التنازع على السلطان يتسلل إلى بيوتهم. فقر قرارهم على ان يجتمعوا فيبحثوا عما يستطيعون فعله للحفاظ على سلطانهم، فلما تذاكروا فيما بينهم قسموا الشعب إلى ثلاثة اقسام !..
فقسم جاهل غافل لا يعلم ماذا يصنع أهل الاستبداد في البلاد.
وقسم يعلم بأحوالهم .. لكنه يتغافل عنها ويتجاهلها طمعاً في الحصول على ما يكسبه من عطياتهم، أو خوفاً مما قد يناله من اذاهم.
وقسم عرفهم وعلم الشيء الكثير من احوالهم ثم عرضه على عقله. فما اتفق معه، فعرضه على دينه وقرآنه. فما اتـفق فاطمأن قلبه إلى ان حكم المستبدين مخالف للعقل كما هو نقيض للشرع).
ثم اعلم ـ نور الله قلبك ـ انهم لما قسموا الناس إلى هذه الاقسام الثلاثة .. قرروا لكل قسم نوعاًمن التعامل، فأما الأول وهم رعاع الناس وجلهم ممن لا يعلمون شيئاً عما يدور حولهم، فقد قرروا ان يستمروا في استغفالهم والحيلولة بينهم وبين ان يفهموا شيئاً من احوال دينهم ودنياهم، وذلك بالظهور بمظهر اهل الإيمان. وافتتاح الإذاعة بقراءة القرآن. وبناء المساجد .. ووضع الأموال إلى الجمعيات الخيرية. وما إلى ذلك من اعمال تزيد غفلة أولئك الناس.
وأما القسم الثانيوهم العارفون بأحوال أهل الاستبداد الساكتون على فسادهم، فهؤلاء ـ اعزك الله ـ ممن هانت عليهم أنفسهم فرضوا بالذل.. واستبدلوا خيرالاخرة بغرور الدنيا، رغبة في شهواتها. أو رهبة من فتنتها ومشاكلها.
فهؤلاء ـ ايدك الله ـ عماد أهل الاستبداد .. وقوام سلطانهم فهم ضامنون ولاءهم ما داموا يغدقون عليهم فتات موائدهم، وقد قرأت في بعض الكتب أن أهل الاستبداد قد رجعوا إلى اسيادهم من النصارى والافرنج . فشاوروهم ، فأشاروا عليهم بأن يستكثروا هذا الصنف من الناس. وأن يغدقوا عليهم من مال الله بدون حساب.
وعلة ذلك.. ان كل حكومة تحتاج إلى واحد من اثنين. شعب يدعمها ويطيعها، أو طبقة واسعة متحكمة تستجيب لاوامرها .. حيث ان اكثر طبقات الشعب معارضة لأهل الاستبداد، وحيث ان معارضتهم تزداد كلما ازداد وعيهم وتـفتحت بصائرهم لا يمكن للمستبدين ان يوفروا حبائل المودة والاطمئنان إلى شعبهم. واذن لا بد لهم ان يعتمدوا على المرتزقة من بائعي الضمير، وقد فعل أهل الاستبداد ـ حماك الله من شرورهم ـ كل ما استطاعوا في سبيل هذا الامر، حتّى لقد وردني ان قادة جيوش العالم يحسدون الشرطي في بلادنا على ما يقبضه من مرتب ? وقد وردني ـ أيضاً ـ ان العسكر في بلاد الافرنج يبذلون كل جهدهم فيوسطون الوسائط إلى رؤسائهم كي يبعثون بهم للعمل في بلادنا، لكي يجمعوا ما يتيسر له من ثروة يدخرونها لأيام عجزهم وشدتهم.
ولو نظرت إلى ما يفعله العسكر في بلادنا. لوجدت العجائب ?.. فقد قيل ان عددهم جاوز المائة الف من شرطة وجيش وحرس ومباحث وغيرهم، وهؤلاء لا عمل لهم سوى قبض المرتبات والدفاع عن الملك ساعة ينهض الشعب في مخالفته.
وقد رأت حكومة الاستبداد ان تمعن في استمالة العسكر وضمان ولائهم. فأمرت ببناء البيوت لكل صاحب عائلة منهم، ثم راحوا ينعمون عليهم في كل مناسبة بمزيد من المال، حيث انهم قبضوا ما يعادل رواتبهم ثلاث مرات بعد ان قام الشعب وانتفض ضد الاستبداد قبل ست سنين، وانما فعلوا ذلك حتّى يبقى هؤلاء مشدودين مرتبطين بأهل الاستبداد وخاضعين لهم.
ثم اعلم ـ رحم الله أباك وأيد مسعاك ـ ان الشك طبيعة أهل الاستبداد، لا يطمئنون إلى احد .. ولا يثـقون في احد مهما بالغ في إظهار الخنوع وازاد من التذلل والخضوع. إذ انهم ـ اعزك الله ـ يخشون من هؤلاء الذين قبلوا ببيع أنفسهم لهم ان يبيعوهم في قادم الأيام لغيرهم اذا اعطى ثمناً اعلى أو منصباً اسمى.
لذلك فقد حدد أهل الاستبداد لهؤلاء حدوداً لا يتجاوزونها، فهم يريدون هؤلاء اجراء عندهم موظفين في دوائرهم، وقد حدث أن أحد هؤلاء ـ ويدعى القصيبي ـ عينوه وزيراً، فظن الرجل انّه قد اصبح كبيراً في القوم .. سيداً من سادة اهل الاستبداد ، فأخذ يكثر من الظهور في الصحف وملاقاة الناس حتّى يضع لنفسه رئاسة عند العامة. وقام لأجل ذلك باعمال اشبه بالمسرحيات ـ دعاها مقاومة الفساد ومراقبة الموظفين وغير ذلك .
فلما رآه الناس قد تجرأ بعض الشيء في تجاوز امراء أهل الاستبداد، مالوا إليه فمدحوه في غير مجلس .. وكالوا له الثناء، فرأى اهل الاستبداد في ذلك خروجاً على سلطانهم وتجاوزاً لما حددوه له، وظنوا ان به رغبة لمنافستهم ولتحدي تفردهم. إذ كيف يدعو لنفسه زعامة الناس وهو الاجير عندهم المتنعم بفتات موائدهم ! ؟ .. فلما ظهر لهم ذلك اطاحوا به .. ونعته الصحف إلى الناس في ثلاثة اسطر ! .. واصبح ـ بعد ان كان نجم الصحف ـ نسياً منسياً، فكأنه لم يكن يوماً من الأيام.
فهذي ـ ايها العزيز ـ طبائع اهل الاستبداد. يستكثرون من المرتزقة الذين يقبلون بيع أنفسهم وضمائرهم من أجل الجاه والمال، ويستجهلون خلق الله ممن لم يظهروا على حقائق احوالهم.
واما القسم الثالث من الناس ـ اذهب الله عن قلبك الحزن، وحرسك من البليات والمحن ـ فهم العارفون بأحوال المستبدين. المخالفون لمسالكهم . والمنكرون عليهم غيهم وطغيانهم، وقد كان هؤلاء ـ ولا يزالون ـ الفئة القليلة من عامة الناس وهؤلاء هم الصابرون على البأساء والضراء، وهم على قلتهم اقوياء بإيمانهم، فلذلك وقع خوفهم في قلوب المستبدين، فلا يقر قرارهم حتّى تفل شوكتهم . وتستأصل جذورهم ويقطع دابرهم.
ثم اعلم ـ عجل الله لك بالنصر وأنه انما حدث هذا الخوف لأهل الاستبداد لأن الله قد أخذ على نفسه ان يؤيد المؤمنين من الفئة القليلة بالهداية ويمدهم بأسباب الغلبة، حتّى ينالوا الفتح، وقد قال عز من قائل ...
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا .
وقال .. ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون .
وقال .. كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله، والله مع الصابرين .
واعلم ـ ايها العزيز ـ انما خافهم اهل الاستبداد لأن دعوتهم دعوة الحق.. وسبيلهم سبيل التنوير، فهم يكشفون للناس حقيقة الحال مما جرى على المسلمين من حكم المستبدين وكلما اشرق الفجر في يوم جديد انضم اليهم من خلق الله كثير ممن زالت الغشاوة عن اعينهم. وفهموا كيف انقض اهل الاستبداد ما صلح من دينهم ، فهذه الفئة من الناس خطيرة على اهل الاستبداد، وانتشارها ايذان بذهاب سلطانهم، لذلك فقد عزموا على إبادة هذه الفئة والخلاص منها، فاتبعوا لذلك الامر كل سبيل، فسجنوا من سجنوا .. وشردوا وقتلوا من خلق الله الكثير.
هذا ما كان من احوال اهل الاستبداد في علاقاتهم مع العامة من الناس، وهذا قليل من كثير.. لكنه يكفي ما يحتاجه المقام.
وأسأل الله لي ولك وللمؤمنين حسن الختام.
طبائع الاستبداد السعودي ـ ابو الفرج المدني
[آل سعود] يكذبون ، ثم يصدقون كذبهم
إعلم ـ ايدك الله ـ ان بلادنا تشهد هذه الأيام تحركاً نحو التعليم والتفكير وكسب الثقافة، وهذا التحرك .. وان جاء متأخراً ، إلا انّه سيأتي ان شاء الله بالخير العظيم ولقد كانت في السابق محاولات في سبيل ذلك، لكن جور الزمان والخوف من جلاوزة السلطان، قد وأد تلك المحاولات وهكذا تموت الرغائب في بلاد يتولى امرها أهل الاستبداد.
على أن رواد العالم ومحبيه قد شحذوا سيوف عزائمهم، وبدأوا يتدارسون امرهم ويتبادلون الرأي فيها بينهم، في جلسات جميلة في نظامها .. مفيدة لروادها، لكنها تعقد في السر .. ولا يطلع على أمرها الا من عرف عنه صدق النية، وحمل الامانة، وحب الجماعة.
واني ـ اعزك الله ـ انما اوردت لك ما اوردت .. لكي اخبرك عن أحد هذه المجالس، حضرته فاستفدت ـ منه، فرغبت ان انقل اليك طرفاً مما دار فيه من حديث ينم عن سعة أفق، وعمق معرفة، ورجحان عقل.
أما حديث أهل المجلس فكان حول ظاهرة خداع الاعلام الحكومي الناس، ثم تصديق الحكام لذلك الخداع. حتّى يتحول الوهم عندهم إلى حقيقة.
وتطبيق الموضوع، ان حاكماً ما .. أو سياسياً ما، يخوض صراعاً مع خصمه، أما من الشعب. أو من شركائه في الحكم، فيسعى للحصول على أي سلاح يستقوي به على خصمه، ومن أهم الأسلحة التي يتذكرها أهل الاستبداد في هذه الحال وينسونها في كل حال.. تأييد العامة من الشعب، فأهل الاستبداد ـ حماك الله من شرورهم ـ يعلمون ان من حاز على تأييد العامة، حاز فصل النجاح في صراعه، فالشعب هو القوة الضاربة إذا اتيح له ان يعبر عن رأيه.
ولكن المشكلة ان الشعب في واد. وهؤلاء الحكام في واد. وبين الواديين ما صنع الحداد. وكيف لأهل ذلك الوادي ان يؤيدوا أهل هذا الوادي وقد وقع بينهما السيف وأريق الدم. وتقولب الصراع بينهما تاريخاً اسوداً من العنف والسجن والتشريد والذبح !؟.
ثم اعلم ـ ايدك الله بالنصر ـ ان أهل الاستبداد قد اعملوا فكرهم طلباً لحل هذا المشكل، وبعد أخذ ورد وتجارب فاشلة وأخرى ناجحة، استقر رأيهم على امر ظنوه حلال المشكلات، ألا وهو تركيز الاعلام على شخص الحاكم وتلميعه كما يُلمِّع الاسكافي ظاهر الحذاء، ثم فصله ـ اعلامياً ـ عن الأعضاء الاخرين في حكومته، وجعله كياناً اخر، فما كان جيداً باهراً من عمل الحكومة .. قيل ان هذا من فعله، وما كان قبيحاً مخزياً .. قيل أنه من فعل الوزير الفلاني والمدير الفلاني.
ثم اعلم ـ حمى الله ساحتك من دواهي الزمان ـ أن هذا قد حدث في بلاد كثيرة، ففي بلاد مصر وصلت الحال ببعض اهل الجرائد إلى اعتبار حاكم البلاد انذاك. الحسنة الوحيدة في تاريخ العرب، والمفرد الذي لا يتكرر في ماضي الدهور أو قادم العصور !.. وإذا قيل ان مصر اقامت السد العالي.. قيل عبد الناصر بناه، وان قيل ان مئات من أهل مصر ماتوا تحت العذاب في السجون .. قيل انّه فعل المخابرات والشرطة وفلان وعلان !. وإذا قيل ان شعب مصر قاوم العدوان الثلاثي. قيل ان عبد الناصر خطط وقاد، وإذا قيل ان جيش مصر هزم في حزيران .. قيل أنه ذنب الوزراء وقادة الحرب وهذا وذاك، وهكذا تنسب إليه كل فضيلة. ولغيره كل رذيلة ، وقد وجد عبد الناصر مذيعاً يتحدث في الإذاعة بفضله، حتّى لقد أنسى الناس بأفعاله .. شعراء السلاطين في سالف العصور !..
ومثله صدام حسين .. الجزار الذي حوله الاعلام إلى امل الامة العربية وحامي مشرقها ومغربها،ولو حسبت الوقت المخصص لأخباره في تلفزيون العراق لوجدته . نصف الوقت الذي يعمل فيه التلفزيون كل يوم، ومثل ذلك في جرائد العراق ومجلاته، على ان اعجب هؤلاء ـ اراحك الله من هم ذكرهم ـ حاكم العراق الاسبق عبد الكريم قاسم، فهذا الرجل كان يصدق كل ما يقال في مدحه... ويروي يونس البحري .. وهو عربي عمل في إذاعة ألمانيا النازية، يروي في مذكراته انّه سجن في بغداد أيام عبد الكريم قاسم بتهمة التجسس، وفي احد الأيام اخبرهم السجان بتنظيف عنابرهم وغسل ملابسهم استعداداً لاستقبال الرئيس الذي يوشك ان يزور السجن.
يقول .. (فعزمت ان استثمر الفرصة مستفيداً مما اعرفه من طباع أهل الاستبداد، فلما وصل وبدأ يستعرض الجنود هتفت بعالي الصوت عاش الزعيم الأوحد .. فهتف الجنود بمثل ما هتفت، وكنت قد أطلقت هذا اللقبل على هتلر في إذاعة برلين العربية).
يقول .. فلما هتفنا بذلك .. بان البشر على وجه عبد الكريم قاسم، فأيقنت ان سهمي قد أصاب مرماه، فقد صدق قاسم أنه اصبح الزعيم الأوحد، وفي ختام الزيارة استدعاني قاسم، وتعرف علي .. ثم أمر بالإفراج عني، وأمر القائمين على الإذاعة بالاستفادة من موهبتي في تلميع الوجوه الكالحة!.. .
واعلم ـ رحمك الله ـ ان ما يحدث في بلادنا هذه الأيام شبيه لهذا، والحق ان جميع أهل الاستبداد في أي مكان وأي زمان صور متشابهة عن أصل واحد، فأوصافهم متشابهة. وأفكارهم متشابهة . وطرائقهم متشابهة. بل وحتى اشكالهم ـ في غالب الاحيان ـ متشابهة، فحيثما نظرت إلى أحدهم، خيل اليك انك تنظر في صورة قصاب أو حفار قبور أو ـ في أحسن الحالات ـ سجان، أو شرطي سيء الحظ!.
فهذا زعيم أهل الاستبداد المسمى فهداً .. لو نظرت إليه تذكرت قطاع الطرق من بدو الجزيرة في غابر الأيام، وقد فهم الرجل أخيراً ان الشعب قد وصل به النفور من أسرة الاستبداد حداً جعل دعاة الجهاد لا يجدون مشقة في دعوة الناس إلى منهجهم، وأقبل الناس عليهم اقبال العطشى على بارد الماء. وقد عزز ذلك من قوة أهل الجهاد، كما زاد حدة الخلاف بينه وبين اخوته المنافسين له على الحكم، فلما رأى ذلك.. فعل ما فعله اهل الاستبداد من قبله، فأمر بأن تكرس الجرائد المجلات والتلفزيون جانباً كبيراً منها للحديث عن فضائله. وأن تنسب كل خير إليه . وتدفع كل شر عنه، حتّى يصدق الناس أنه منزه عن الشرور.
ثم أخذ في القيام ببعض الادوار التي يفهمها العامة على أنها دلالة حسن وجودة في الحاكم، وهي في عرف اهل المعرفة.. دلالة سوء إدارة واستهانة بقدرات العباد والبلاد، فمن أفعاله انّه يعين أولاده والمقربين منه في الدوائر المهمة ، ثم يأمر أن يشتروا سكوت الناس بأي ثمن، وأن يصرفوا من الأموال بدون حساب حتّى يشعروا الناس بأن الحكومة قد فعلت خيراً، ثم ينسبون ذلك للملك.
وفي بعض الاحيان. كان الملك أو رجاله ينفقون ثم يراجعون المالية فيجدون الميزانية المخصصة قد انتهت.. فيطلبون اعتمادات أخرى، وهكذا يأخذون من اعتمادات المشاريع والوزارات هنا وهناك حتّى يواصلوا انفاقاتهم الفوضوية، والتي لا هدف لها الا شراء الذمم واسكات الناس، والعجيب أن أهل الجرائد يصفقون ويكيلون له المدائح، فهو معجزة العصر .. وفلتة الدهر ..! . كل هذا عن جهل منهم أو تجاهل، فقد بلغ بهم احتقار الذات واستصغارها.. درجة أنهم اصبحوا كالآلة المبرمجة، عملها المدح دون تفكير أو تدبر في الأمر أو تقليب لأوجهه.. عل فيه جانباً ذا علة، بل لعله علة كله من فوقه ومن تحته . ولكنهم ـ كما قلت ـ ارتضوا لأنفسهم ذلك الدرك.
وقديماً قالت العرب من يهن .. يسهل الهوان عليه .. و ما لجرح بميت إيلام .
على ان ما يضحك الحزين في هذا الامر. هوان الملك قد صدق ما يقال فيه، فهو يظن نفسه علامة الزمان، والعظيم الذي لا تجود بمثله أرحام النساء! .. كالغراب الذي قلد مشية الطاووس ثم صدق أنه اصبح طاووساً يرى نفسه فائق الجمال ويراه الناس غاية القبح.
وهكذا أهل الاستبداد .. يخدعون الناس، ثم يأمرون أهل الجرائد بتزيين ذلك الخداع، ثم يصدقون كذبهم وخداعهم. حتّى تدور عليهم الدوائر ويكتشفون أن ما ظنوه حقيقة كان وهماً، وأن قصور الأحلام إنما كانت دخاناً أو كالدخان.
فهذه ـ اعزك الله ـ طرف مما دار في ذلك المجلس الذي ذكرته لك في مفتتح الحديث، وهذا تمام الكلام مما يتسع له المقام، وأسأل الله لي ولك الهداية وحسن الختام.
طبائع الاستبداد السعودي ـ أبو فرج المدني
أحوال [آل سعود] مع الناس
حدثني بعض أهل الفضل من طلبة العلم ، قال أنه قرأ في بعض الكتب أن أهل الاستبداد ممن يحكمون بلادنا قد جاؤوا من قرية من جنوب تهامة يسكنها اليهود، وأن جدهم الأعلى قد ادعى الإسلام حينما خاف على نفسه من القتل على يد الاعراب، وأن أولاده ممن حكموا ويحكمون على شاكلته، ولذا فان ما سبق الكلام عنه من جورهم وفسادهم انما هو قطرة في بحرهم. وغيض من فيضهم ، فإذا حل اليهود في بلد .. استحال حال العباد خراباً .. وأمور البلاد يباباً.
واعلم ـ ايدك الله ـ أني قرأت شيئاً من هذا القبيل من غابر الأيام، فلعل ذلك لا يعدو عن الحقيقة، ثم اعلم ـ نور الله بصرك ـ أن حديث ذلك الطالب قد نبهني إلى امر غاية في العجب ، وانما عجبي لأن الناس لا يحتجون به على اهل الاستبداد.
كيف وهو نصب العين ! ؟
إعلم ـ اعانك الله على نوائب الزمان ـ أن الشريعة الإسلامية التي انزلها الله على خاتم انبيائه هدى وبياناً للناس، أوجبت ان يكون في من يحكم الناس شروطاً ..
أولها .. ان يكون مرضياً من العامة.
وثانيها .. أن يكون ذا تقوى وورع .
وثالثها .. أن يكون ذا علم ومعرفة.
ورابعها . أن يكون ذا عزم وحزم .
فأما وجوب رضى العامة.. فلكي لا يسود السلطان إلى من لا يريده الناس ، فيحكم فيهم بالقهر والجبر.
واما شروط التقوى والورع . فلكي لا يتخذ السلطان سبيلاً إلى المغنم، ولكي لا يلعب في الحكم اولاده وأقاربه وحاشيته.
وأما شرط المعرفة والعلم. فلكي يحسن إدارة البلاد والعباد، فالحاكم ما هو الا المشرف الذي تعينه الامة ليشرف على عمران البلاد وإنماء الأرض وتعليم الناس وانصاف المظلوم وإغاثة المهلوف وإعانة الضعيف.
وأما شرط العزم والحزم. فلكي لا يؤخذ بجبروت اهل الكبرياء من أصحاب المال والسلطان، ولكي لا يركن إلى دول الكفر طلباً للمنعة..
فلو أردنا تطبيق هذه الاحكام البينات على من يحكم بلادنا من أهل الاستبداد .. لما وجدنا غير الضد والنقيض ..
فنظر نور الله بصرك ـ اليهم كيف يتولون الحكم بالوراثة؟ .. فكأنما حكم الناس وإدارة شؤون البلاد شيء من المتاع، يرثه الابناء عن الآباء، وصغار الاخوان من كبارهم، وهذا ما يخالف صحيح الشرع، فانما الحكم عند أهل الإسلام بالشورى والانتخاب بعد حصول الصلاح في من اريد انتخابه، وأما اهل الاستبداد .. فكل من تولى الحكم عين خلفه وسماه ولياً للعهد، لا لكونه صالحاً كفؤاً ، بل لأنه أخ من أبيه .. دون أخذ رأي الناس بعين الاعتبار.
وكم جاء إلى الحكم من ملك فاسد أو بليد جاهل أو جبار عنيد أو شيطان مريد !؟.
فمنهم كبيرهم المسمى فهداً المعروف بشرب الخمر والذي عزل أحد وزرائه لأن خليلته غضبت عليه ..
ومنهم كبيرهم السابق المسمى خالداً الذي قالت عنه إذاعات العالم حين تعيينه بأن أعظم كفاءاته صيد الصقور .. وأحب أعماله إلى نفسه قضاء الأيام تلو الأيام في البادية.
ومنهم سلفهم المسمى فيصلاً .. الذي ما أبقى بيتاً في البلاد الا وأدخل فيه الحزن لكثرة ما سجن وقتل وشرد.
ومنهم سلفهم الآخر المسمى سعوداً. الذي أفلست ميزانية الحكومة في عهده لكثرة ما أنفق على بناء القصور واستيراد الجواري والمغنيات.
وعلى ذلك .. فلم يأت إلى الحكم ملك صالح .. كما لم يكن أحد منهم مرضي عنه من الشعب.
وما يدل على ذلك أنهم لا يسمحون للشعب بحرية الكلام وحرية الانتقاد، ولا يسمحون للصحف أن تكتب ما تشاء لأنهم يخافون ان تقال الحقيقة وأن يكشف الستر عما خفي عن اعين الغافلين.
ثم اعلم ـ أعانك الله على تصاريف الزمن ـ أن أهل الاستبداد يحكمون بلادنا كما يحكم الراعي السفيه ماشيته في الصحراء، فلا قانون يبين صلاحياتهم ولا دستور يوضح حقوقهم وواجباتهم، بل كل ما اشتهوا. اصبح قانوناً ، وكل ما أرادوا .. أصبح واجباً، وهذا ما يخالف شرع الله، كما يخالف سيرة العقلاء، ولا يقبله أهل الدراية وذوو الألباب.
وقد جرت العادة في البلاد المتحضرة ان يكون للدولة قانون أعلى يسمونه الدستور، يبين فيه كيفية الحكم. وماذا يحق للوالي ما لا يحق له .. وماذا يجب على المواطن وما يمنع عليه، وقد أجمعت تلك الدساتير على ان الحكم إذا كان ملكياً وراثياً يجرد الملك من الصلاحيات ويصبح ممنوعاً من تولي أمور الدولة، وتصرف أمور البلاد عن طريق الوزراء الذين ينتخبون من قبل عامة الشعب.
وأما في بعض البلاد . فان الناس قد عرفوا فساد النظام الملكي وخطر توارث الحكم، فمنعوا ذلك وأقروا بأن يكون الحاكم الأعلى رئيساً ينتخبه عامة الناس.
ثم ان تلك الدساتير قد حددت حدوداً لما يجب ؟ ان تكون عليه علاقات الدولة بسائر الدول، فإذا كان الدستور قائماً على هدي من الله وبينات من القرآن .. فقد حرم الركون إلى دول الكفر، وأوجب الانفصال عنهم وأعدم الثقة فيهم.
فإذا نظرت إلى حالنا. رأيت أن أهل الاستبداد قد منعوا من وضع دستور للبلاد خوفاً من ان يحدد صلاحياتهم ويخول بينهم وبين انفاذ رغباتهم ومشتهياتهم.
ثم انهم ـ اعزك الله ـ حين خافوا غضب العامة عليهم وقيامهم لزعزعة سلطانهم، القوا بأنفسهم في أحضان أسيادهم وأعوانهم من دول الكفر، فأعطوها من مال الله الذي وهبه لعباده ما يضاهي أموال قارون، وما كان ذلك ليحدث لو أن في البلاد دستوراً. فإذا قلت لهم ذلك احتجوا عليك بأن القرآن دستورهم، وما أعجب هذا العذر الذي هو أقبح من الذنب ـ كما يقول العرب ـ فكيف يكون القرآن دستورهم وهم يفعلون تلك الافاعيل ؟.. أو لم يقل القرآن:
وأمرهم شورى بينهم ..؟ وقال وشاورهم في الامر ..؟
فأين هي الشورى إذا كانوا ينصبون الملك وسلفه لا يزال حياً !؟
ثم ان القرآن يقول ..
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار . . ويقول .. لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله .
فكيف ينطبق ذلك وما يفعلون من الاستئناس بأهل الكفر والثـقة بأعداء الدين.. وإرخاء المودة إلى النصارى والمشركين؟
ثم اعلم ـ ايدك الله تعالى ـ ان حجتهم بكون القرآن دستورهم .. حجة داحضة ، فالقرآن دستور لكل شيء، لكن كل شيء فيه ورد على سبيل الاجمال.. أي انّه لا يحوي تفاصيل لأمور الدولة والناس وعلاقة الحاكم بالمحكوم، انما تكفلت بذلك السنة النبوية التي هي شرح للقرآن، وتكفل بذلك اجماع اهل العلم ورأي ذوي العقول، وهذا لا يمكن اعتباره دستوراً الا إذا كان مجتمعاً على هيئة نصوص واضحة مفصلة.
وأما دليلنا الآخر على فساد حجتهم، فهو اعلانهم غير مرة بأنهم سيضعون دستوراً للبلاد، فإذا كان القرآن ـ كما يدعون ـ دستورهم.. وأنه قد أغناهم عن تفصيل احكامه في دستور، فلماذا أعلنوا ذلك؟.. إن هذا القول كذب واضح وباطل بين، فلا هم اتخذوا القرآن دستوراً.. ولا هم أرادوا وضع دستور، وإنما اعلنوا ذلك لاسكات طلاب العدالة وإرضاء دعاة الإصلاح ممن غاظهم ما آلت إليه البلاد.
اعلم ـ اعزك الله بالدين وثبت قلبك باليقين ـ ان أهل الاستبداد قد أعلنوا اكثر من مرة انهم سيضعون دستوراً للبلاد، وفي كل مرة يكذبون على الناس ولا ينجزوا وعدهم، فأولهم أخوهم المسمى فيصل .. الذي أعلنها قبل عشرين سنة، ثم لفلفها إلى ان قتله الله على يدي ظالم مثله من أهل بيته، ثم أعلنها أخوهم الآخر خالد قبل نحو عشر من السنين .. إلى ان قضى كاذباً حانثاً بوعده، ثم اعلنها ثالثة كبيرهم الحاضر المسمى فهد ، قبل ست سنين عندما ثارت ثائرة أهل الإسلام فخشي انقضاض الامر عليه وانفلات زمام السلطات من بين يديه، ولما أبطأ في انجاز وعده. وتساءل الناس عن ذلك، قال إنه لا يزال قيد الدرس!.. وسيبقى ـ كما يظهر من كلامه ـ قيد الدرس إلى ان يغفل عنه الناس، أو يقضي كما قضى إخوته، فيأتي ظالم آخر يجدد الكذبة البالية أسمالها ويعيدها على أسماع الناس كالاسطوانة الجريحة.
ـ أبو فرج المدني