سقوط قيادة الحزب التاريخية
غسان الإمام
* طالب البيطار بالرأفة بالسادات، وعاش
عفلق صامتاً في ظل صدام
لم يكن ميشيل عفلق وصلاح البيطار احسن حظا من اكرم الحوراني. فقد انتهت
حياتهما السياسية عمليا في انقلاب عام 1966 الذي دبره ضدهما اللواء
صلاح جديد «الابن الروحي» لعفلق.
وهكذا، بين عامي 63 ـ 1966 سقطت القيادة المدنية التاريخية لحزب البعث
الاشتراكي، ولم يستطع القادة الثلاثة بعد هذا التاريخ لعب دور سياسي
يذكر.
فر عفلق والبيطار لاحقين بالحوراني الى لبنان. وفيما اعلن البيطار هناك
طلاقه بالثلاثة من حزب البعث، وتجنب الالتحاق ببعث صدام حسين بعدما صعد
الى السلطة في العراق منذ عام 1968، فقد انضوى عفلق بعد تردد قصير تحت
جناح صدام، وباركه معتبرا إياه امتدادا «للبعث القومي» الذي اسقطه
البعث السوري.
نهاية مأسوية محزنة لقيادة الحزب التاريخية. فقد لعب الثلاثة لعبة
العسكر. وعندما اطلقوا المارد من القمقم كانوا هم والديمقراطية ضحايا
«الجيش العقائدي» الذي تم تسييسه وتحزيبه ثم «تطييفه».
كان صدام بحاجة الى عفلق ليضفي على بعث العراق هالة الشرعية القومية
«للقائد المؤسس» وعاش عفلق في كنف صدام عشرين سنة شاهد الزور على سلطة
الفرد المطلق، ولم يفتح فمه علنا ليعترض على اعدام «الرفاق» المدنيين
والعسكريين، وعلى ازاحة البكر، وعلى رفض توريط العراق والعرب في الحرب
العبثية ضد ايران.
ومن حسن حظ «القائد المؤسس» انه مات قبل ان يرى صدام يورط العراق في
حربه المجنونة الثانية في الخليج. ولم ينج عفلق حتى في موته من
المتاجرة السياسية بجثته فقد امر صدام بادخالها المسجد والصلاة عليها
زاعما ان ميشيل قد اسلم في حياته.
وهكذا ايضا، بات للبعث العراقي «ولي» من «الأولياء الصالحين» له كرامات
وشفاعات، لكن اسلمة ميشيل عفلق لم تنفعه في الاحتفاظ بمكانته كمفكر
ومنظر البعث، واذكر ان طارق عزيز قاطعني في حديث لي معه في باريس في
عام 1980 ليقول لي بجدية مصطنعة مثيرة للضحك: «لا.. لا تخطئ.. الاستاذ
صدام حسين هو المنظر وهو المفكر في الحزب».
نهاية صلاح البيطار اكثر مأسوية من نهاية عفلق والحوراني، بعد طلاقه
للحزب اجرى مراجعة ذاتية لموقفه وفكره، فوجد انه بات اكثر استعدادا
للتعاون تحت شعار الديمقراطية التعددية مع القوى الليبرالية والمحافظة
بما فيها الاصولية في سورية.
رفض البيطار اللجوء الى بعث العراق، واقام في قاهرة السادات مجددا
صلاته بالقوى القومية والديمقراطية في العالم العربي.
وكان خلال تردده على باريس ينصحني بأن نكون اكثر رفقا ورأفة بمصر
السادات. وكان السادات آنذاك يخوض حملة كراهية ضد العرب بسبب معارضتهم
صلح الكنيست والكامب.
ثم.. ثم عاد البيطار فجأة الى سورية في شبه مصالحة مع نظام الاسد في
اواخر السبعينات. ولعل البيطار رأى في وجوده في بلده آنذاك فرصة مناسبة
له للعودة الى المسرح السياسي من موقع وسطي.
كانت القوى الليبرالية والمثقفة آنذاك تضطرم بمشاعر اللهفة الى العودة
الى الديمقراطية كحل وحيد لعنف الاخوان المسلمين، وكإخراج للنظام من
مأزق العزلة والانغلاق.
قال لي صلاح البيطار بعد ذلك، انه ذهب الى الرئيس الاسد يسأله عن
الديمقراطية. كان ذلك في عام 1978 على وجه التحديد. ورد الاسد بدهشة
مستغربا:
يا أستاذ صلاح. أليست لدينا ديمقراطية؟! لدينا مجلس شعب منتخب، لدينا
جبهة وطنية وتقدمية، ولدينا تعددية وحزبية.
وحك الاستاذ ذقنه بسبابته كعادته، وخرج من عند الاسد، وخرج من سورية
ايضا، وفوجئت به يحط الرحال مرة اخرى في باريس معتزماً اصدار صحيفة
اسبوعية باسم «الاحياء العربي».
وصدرت الصحيفة بنفس ديمقراطي قومي مهادن للقوى الليبرالية والمحافظة
والاصولية مع تركيز شديد على سورية. ووصلت ذروة حملة البيطار على
النظام عندما اضربت انذاك النقابات المستقلة مطالبة بالديمقراطية.
لم يدرك البيطار الخطر المحدق به، فاغتيل في عام 1980 في اللحظة التي
بدا فيها وكأنه بديل للنظام مقبول لدى القوى المعارضة في اليمين والوسط
واليسار. مات البيطار برصاصة قاتل محترف على باب الصحيفة التي تطالب
بالديمقراطية وحرية الرأي.
كان البيطار على جانب من الثراء، لكنه عاش متقشفا وبخيلا، وكان يتمتع
بدعم مالي من اصدقاء وقوى قومية وديمقراطية متعددة، مع ذلك فقد رفض
نصيحة الناصحين، وكنت واحدا منهم، بأن يستخدم حارسا شخصيا يرافقه.
كان «الاستاذ» يعتقد ان مكانته كأحد رجلين تاريخيين أسسا البعث تشكل
حصانة له من الاغتيال بالاضافة الى شيخوخته. فقد كان انذاك في السبعين
من العمر ويستحيل عليه مقاومة رصاصة تستقر في الرأس من الخلف. ونسي ان
السياسة العربية في عصر المؤامرة لم تعرف الرحمة ولا الخطوط الحمر.
صلاح البيطار من اسرة دينية عريقة في اكبر واقدم احياء دمشق. ومن «حي
الميدان» خرج هو ورفيق الدرب ميشيل عفلق ليدرسا في باريس قبيل الحرب
العالمية الثانية. درس عفلق التاريخ ودرس البيطار الكيمياء.
وعاد الرجلان ليعملا في التدريس في ثانويات دمشق الرسمية. لكن اهميتهما
التاريخية تكمن في كونهما تجسيدا سياسيا وفكريا لنخبة الانتلجنسيا
القومية التي شكلت الجيل القومي الثاني. وقد اضفى هذا الجيل على الحركة
القومية العربية طابعاً علميا وفكريا يختلف عن الطابع العاطفي العفوي
الذي طبع الجيل القومي الاول، جيل النضال ضد الاستعمارين التركي
والاوروبي.
كانت الانتلجنسيا السورية في الثلاثينات اول من بلور في العالم العربي
الحركة العربية في نواد وروابط قومية فكرية وثقافية. وكان عفلق
والبيطار أول من نجح في هذه النخبة الممتازة في تنظيم طلبة وشباب
الاربعينات في حزب قومي.
كان صلاح البيطار بعيدا في مظهره وفكره عن مظهر وشكل مشايخ اسرته. بل
كان وجهه اقرب الى وجوه الاكاديميين الجامعيين منه الى وجوه الساسة
المحترفين. كان مهيبا في مظهره مع انحناءة خفيفة. وكان مقلا في كلامه
واحيانا شاردا لكن ليس في شرود عفلق. واذا تكلم بدا في صوته المتأني
الخفيض وكأنه يلقي درسا على طلبته.
علمية البيطار لم تجرده من مزاجيته وعصبيته، وثقافته حرمته من ان يكون
زعيما جماهيريا وسياسيا مقبولا له قاعدة شعبية في دمشق وسورية. لكنه
كان اكثر حضورا وبراغماتية من عفلق على المسرح اليومي. ولذلك وقع عليه
الاختيار ليكون الوجه السياسي للحزب، ثم رئيسا لوزرائه على الرغم من
الاختلاف معه.
وكانت مصداقية البيطار كمثقف قومي اصيل اكبر واعمق لدى المثقفين من
مصداقيته لدى الساسة المحترفين. فلم يكن بعيدا عن اسلوب المناورة في
حياته السياسية. ولعل اهم ادواره هو ذاك الذي لعبه في انجاز الوحدة بين
مصر وسورية. فقد انحاز الى جانب العسكر الذين كانوا يفاوضون عبد
الناصر، وتبنى موقفهم في القبول بوحدة اندماجية، فيما كانت وجهة نظر
الحزب تميل الى وحدة ديمقراطية اتحادية.
وكان البيطار يأمل في ان تكون لديه مكانة وحظوة اكبر لدى جمال عبد
الناصر. وربما تطلع الى ان يكون وزيرا للخارجية بعدما كان وزيرها في
سورية. وكان عبد الناصر مخطئا في الاستخفاف بـ «الاستاذ» ورفيقيه عفلق
والحوراني.
وكان الخطأ الكبير في حياة البيطار الذي لم يغفره له الحزب والمثقفون
هو توقيعه مع اكرم الحوراني «وثيقة الانفصال» التي كانت بمثابة ردة
محلية ضيقة على المبدأ الاساسي للحزب، مبدأ الوحدة العربية.
واعتذر البيطار عن «خطيئته» سريعا وعاد الى اصدار صحيفة «البعث» في عهد
الانفصال ملتزما بخط عفلق في الهجمة على نظام اليمين من جهة، وفي
المزايدة على عبد الناصر من جهة.
وبعد سقوط نظام الانفصال شكل البيطار عدة وزارات قومية وحزبية. ثم
اشتبك الى جانب عفلق مع عسكر الحزب ومراهقيه وخسرا معا المواجهة. وهي
قصة تستحق الرواية، ذلك انها قطعة من تاريخ سورية وثيقة الصلة بوجهها
السياسي المعاصر، ولها علاقة قوية بكارثة الهزيمة العسكرية التي نزلت
بسورية وعبد الناصر في عام 1967، وما زال العرب يعانون من آثارها
المدمرة الى اليوم وربما الى اجيال.