وقد عثرت التنقيبات الأثرية لاحقاً على مجاميع من النصوص في مواقع كثيرة أخرى، غالباً ما تكون في المعابد والقصور. فليست جميع المجموعات تأتي من مكتبات، إذ من الواضح أن عدداً من الرسائل ووثائق العمل كانت تنتمي إلى دواوين أو أراشيف عائلية أو حكومية. غير أن هناك مجموعات أخرى من الألواح لا تصنَّف محتوياتها ضمن المراسلات الجارية، ولا ضمن الشؤون الاقتصادية. إذ أن موضوعها هو التعليم التقليدي، وغالباً ما يكون مماثلاً لما عُثِرَ عليه في ألواح المكتبة في كوينجق، ولا يكون من النادر أن تكرّرها. وهذا ما يسوّغ لنا اعتبارها أجزاءً من مكتبات قديمة أخرى، وإن لم تكن مكتبات واسعة سعة مكتبة آشور بانيبال، ومن المرجح أنها ليست مجموعات ملكية. في بعض الحالات، ربما كانت هذه المجموعات تنتمي إلى معبد، وفي حالات أخرى إلى مدرسة لتعليم الكتبة، أو حتى لباحث مفرد أقامها كأساس لتعليم الكتابة.
ونحن نعرف ثلاث مجموعات من هذا النوع تأتينا من الألفية الثالثة. تأتينا إحداها من فارة (شروباك القديمة)، وواحدة ثانية من أبو الصلابيخ (اسم قديم غير معروف على وجه التحديد)، والثالثة من أبلا في سوريا (انظر ص ٦٧). يمكن تحديد تأريخ المجموعتين الأوليتين بمنتصف الألفية، أما الثالثة فربما تُؤرَّخ بعدهما بقرن أو ما يحاذيه. وقبل نهاية القرن التاسع عشر اكتشف المنقبون الأمريكيون ألواحاً من مكتبة مهمة أخرى في نفّر، ويمكن تحديد تأريخ هذه الألواح بالحقبة البابلية القديمة، أي قبل آشور بانيبال بأكثر من ألف عام. وزوّدتنا آشور، العاصمة الأقدم لبلاد آشور، بألواح من مكتبة أخرى، اكتشفها الأثريون الألمان في عامي 1904-1905. وكانت هذه مكتبة تغلات- بلاسر الأول، التي أقامها في أواخر القرن الثاني عشر، وكان قد دشنها بنويات من الألواح المنهوبة من بابل، أو ربما بورسبا، ثم أضاف إليها نُسَخاً جديدة النَّسْخ من ألواح إضافية.
وتشمل الاكتشافات اللاحقة للمكتبات واحدة في نمرود (كالح القديمة) في بلاد آشور، وأخرى في سلطان تبة بالقرب من حرّان في جنوب شرق تركيا، وأخريات في سبار، وبورسبا، وأور في إقليم بابل. لكن أياً من هذه المكتبات لم يقارب مكتبات كوينجق من حيث الحجم. وعثرت التنقيبات في أواخر الثلاثينات في رأس شمرا (أوغاريت القديمة) في سوريا على مجموعات أخرى من الألواح من مكتبة تعود إلى النصف الثاني من الألفية الثانية. وتتبع هذه الألواح نماذج بلاد ما بين النهرين، لكن كثيراً منها لم يكن مكتوباً بالخط المسماري المقطعي المتبع في بلاد ما بين النهرين، بل بلغة سامية غربية تستخدم نظاماً ألفبائياً مسمارياً ابتدع في سوريا.
يستدعي أي جمع للألواح صورة من صور الخَزْن. وكانت التنقيبات الأثرية في منتصف القرن التاسع عشر من القسوة بحيث إنها أزالت أية بيّنة باقية تدلُّ على الكيفية التي كانت تخزن فيها الألواح في كوينجق، ولكن تمَّ تحديد ترتيبات الحفظ في بعض المواقع التي نُقِّبَ فيها لاحقاً. وتدلُّ بيّنة من معبد في آشور على أن الدواوين الاقتصادية زهاء عام ١١٠٠ ق م، كانت تُحفظ في جرار طينية. أما في كالح فكانت هناك حجرات خزن، مصنوعة من طابوق مفخور كبير، بسعة قدم مربع ونصف. وفي سبار أشار أستاذ الآشوريات فاروق الراوي إلى شكل بناء الرفوف المستعملة من أجل المكتبات (انظر الشكل ٦٨). وحين كان عدد من الألواح يشكل عملاً مترابطاً (أو سلسلة متصلة)، فإن هذه الألواح تُشدُّ إلى بعضها أحياناً في مجموعات تزوَّد ببطاقة لتيسير تحديدها.
وبرغم أن مكتبة آشور بانيبال كانت في نينوى، عاصمة إقليم آشور في زمنه، فلا شكَّ في أن أغلب محتوياتها كانت من أصل بابلي في الأساس. وتشير بعض الألواح إلى أصلها البابلي بوضوح من خلال ما هو مكتوب في التذييل. وهناك أيضاً رسالة تقدم برهاناً على ذلك. وهذه الرسالة، التي يمكن تحديد تأريخها بالقرن السابع، موجهة من ملك، وإن لم تسمِّه، فإنه لا يعدو شخص آشور بانيبال. تقول الرسالة:
أمر ملكي إلى كُدُرانو...حالما ترى لوحي هذا، تولَّ العناية بفلان (يسمي ثلاثة رجال) وخبراء الكتابة المعروفين لديك في بورسبا، واجمع كلَّ الألواح التي في بيوتهم، وكلَّ الألواح المودعة في معبد إيزيدا (على الخصوص):
ألواح (بنصوص) لتمائم الملك،
(ألواح) لـ (طقوس التطهير في) الأنهار في أيام شهر نيسان،
تمائم لـ(طقوس التطهير في) الأنهار لشهر تشريت،
و(للطقس المسمى) «بيت نضح المياه»،
تمائم (لطقوس التطهير في) الأنهار....
أربع تمائم حجرية لرأس سرير الملك وقدمه....
رقية «عسى أن يهب إيا ومردوك الحكمة الكاملة»،
وكلَّ السلاسل هناك عن الحرب، بالإضافة إلى كل ما يتوفر من ألواح أخرى بعمود واحد.
(رقية) «عسى أن لا يقرب سهم في المعركة من رجل»،
(سلسلة) «العودة إلى القصر من الذهاب في الصحراء»،
طقوس «رفع اليد»،
(أي) نقش (عن ملكيات) الأحجار وما هو خير للملوكية...
أي ألواح مرغوبة للقصر، مهما كثر عددها،
وأي لوح نادر تعرفه ولا يوجد في بلاد آشور.
ابحث عن هذه الألواح وابعثها لي... ولا يجوز لأحد أن يحجب عنك أي لوح. وإذا كان هناك أي لوح أو طقس لم أذكره لك ووصل إلى علمك أنه صالح لقصري، فابحث عنه، وصادره، وابعث به إلي«(٣).
توضح هذه الرسالة عدة أشياء. أولاً أن لمعبد إيزيدا، معبد نبو في بورسبا، مكتبته الخاصة وما يرتبط بها من خبراء بالكتابة، وأشخاصا معينين يمكن أن يمتلكوا بعض مجموعات الألواح. ثانياً من الواضح على نحو جلي أن آشور بانيبال لم يكن يبحث عن نصوص يقرأها بحثاً عن المتعة الجمالية، أو الكتابة الإبداعية المميزة شكلاً أو أسلوباً. صحيح أن مكتبة كوينجق، ومجموعات الألواح في أماكن أخرى، تنطوي على قلة من النصوص التي تتميز بالقيمة الأدبية استناداً إلى المعايير الحديثة، غير أن هذه الخصال لم تكن موضع اهتمام الرعاة الملكيين القدماء. في الاعتقاد القديم، كان الشخص الذي يعتلي العرش على نحو خاص عرضة لاستهداف سهام النحس الطائشة، وما أراده آشور بانيبال في الأساس هو الحماية الغيبية له ولقصره. ولهذا السبب فإنه أشيع نمط من النصوص في مكتبة كوينجق يضم مختلف الفؤول. وتنتظم هذه في سلاسل، وتسجل ميداناً بالغ السعة من الظروف التي يفترض أن تقدم معرفة بأحداث المستقبل.
عند البحث عن نصوص فؤول محددة أو سلاسل طقسية معينة، فإن هدف آشور بانيبال كان عملياً على نحو كامل، فقد تؤدي الفؤول دوراً بارزاً في تيسير فن الحكم، أو تقدم تحذيراً من مخاطر ممكنة للدولة أو الملك، وقد تحبط الشرور المتوقعة أو تقف بوجهها. وهناك طرق كثيرة قد تعرب فيها الآلهة عن مقاصدها: قد تكون عن طريق مظهر بعض الحيوانات والطيور والزواحف أو حركاتها، أو عن طريق الولادات الغريبة للبشر أو الحيوان، أو عن طريق أوضاع المدن، أو عن طريق الأحلام، أو عن طريق التكهنات الفلكية. وإذا استخدمنا عبارات كارل بيزولد، الذي كان أول من صنّف هذه النصوص للمتحف البريطاني، «يبدو أنه لا يكاد يوجد أي حدث، مهما يكن تافها، لم يستفد منه العلم الزائف»(٤).
في إقليم بابل كانت تقنيات العرافة العليا من الحقبة البابلية القديمة فصاعداً تتمثل في مراقبة ملامح الأعضاء الداخلية، ولا سيما الكبد، لخروف يُضحَّى به. والخبير بهذا العمل، الذي هو (بارو)، (أي الكاهن العراف) كان شخصاً يحظى باحترام كبير، وقد نما العلم الزائف بأسره حول إجراءاته، مع النماذج الطينية لأعضاء الحيوانات، التي يشار بها إلى المعاني التكهنية لمختلف العلامات (الشكل ٦٩).
ربما كانت مكتبة كوينجق تحتوي على قلة قليلة من النصوص ذات الأصل الآشوري، غير أن رسالة آشور بانيبال، حين ترافقها دلائل التذييلات، تجعل مما لا غبار عليه أن الغالبية الكبرى من الألواح كانت تمثل أدب الكتبة المعروف في بابل في الألفية الأولى وما قبلها. فهي كانت أنواعاً من النصوص التي كان ينسخها الكتبة البابليون تقليدياً ويحفظونها. ويأتينا تأكيد آخر لهذا من كون كثير من نصوص كوينجق توجد منها نسخ مكررة في مجموعات من النصوص التي عُثِر عليها في بابل.
وعن طريق المقارنة بين النسخ المتعددة للنص نفسه في حقب مختلفة، يمكن للباحثين الحصول على مفاتيح لتاريخ انتقالها. وفي كثير من الحالات كان الكتبة يبدأون تحرير نصوص بلاد الرافدين الأدبية استناداً إلى صيغة معيارية أو قياسية من الحقبة الكيشية في زهاء 1200 ق م. وقد استمرت هذه العملية حتى حكم نبوخذنصَّر الأول (1124-1103 ق م)، وفي عصر آشور بانيبال كانت جميع النصوص القديمة التي هي قيد الاستعمال قد اتخذت صيغة معيارية قياسية، ونادراً ما كانت توجد الفروق الطفيفة بين النسخ المتعددة للنص نفسه. ووراء صيغة النصوص كما تمّ تحريرها في الحقبة الكيشية، غالباً ما كان يوجد تنقيح بابلي قديم، وأحياناً يوجد وراء ذلك أصل سومري من الألفية الثالثة.
لم يترك الكتبة القدماء أنفسهم أي نظام في تصنيف النصوص، برغم أنهم يوفرون أحياناً قواعد تشير إلى الظروف التي ينبغي استعمالها بها. ويمكن وصف مجموعة معينة واسعة من هذه النصوص.
نصوص لتعليم الكتبة
كان تنظيم المدن العراقية القديمة يعتمد على السجلات المكتوبة، فكان من الضروري وجود نظام لتدريب الكتبة. وكان التلاميد يكتسبون الخبرة بالكتابة عن طريق نسخ الألواح المتوفرة بين أيديهم تحت إشراف كاتب خبير حاذق، وهناك ما يرجح أن هذا النظام يرتقي في أصله إلى ما قبل منتصف الألفية الثالثة، وربما كان قيد الاستعمال أصلاً عام ٣٠٠٠ ق م. وهو يفترض مسبقاً وجود مجموعة من الألواح القديمة للمساعدة كنماذج يحتذى بها، ولا بدَّ أن أساتذة المعاهد الكتابية كانوا قد أعدوا مجموعاتهم الخاصة لهذا الغرض. وقد شكلت مثل هذه المجموعات أساس المكتبات اللاحقة. ويستغرق إتقان صنعة الكتابة عدة سنين، واستناداً إلى ما قيل لكاتب: «لقد جلستَ في بيت الألواح من أيام صباك إلى أيام نضجك». و«بيت الألواح» (الذي هو في السومرية: أي-دُب-با) كان الاسم الذي يُطلق على معاهد تعليم الكتابة التي صارت تضمُّ في القرون الأخيرة من الألفية الثالثة في الأكثر طاقماً من الخبراء بصنعة الكتابة. وقد أسس الملك «شولجي» من سلالة أور الثالثة أو طوّر مثل هذه المعاهد في كلٍّ من أور ونفّر (انظر ص ٨٧-٨٨)، وقد ادعى أنه هو نفسه تعلّم في مثل هذه المعاهد حين كان طفلا، وبزَّ أقرانه في فن الكتابة والرياضيات. وتعطينا النصوص المكتوبة في مثل هذه المعاهد نبذة مفعمة بالحيوية عن الأنظمة المتبعة والمناهج المقررة وقواعد الانضباط في مدارس تعليم الكتابة.
وبرغم أن معاهد الكتابة تبدو في العادة مستقلة، فلا بدَّ أنها كانت تمتاز بعلاقة وثيقة مع المعبد، ما دام الكتبة كانوا يؤدون دوراً لا يُستغنى عنه ليس فقط في إدارة المعبد، بل أيضاً في قضايا العبادات. على سبيل المثال، تتطلب ظروف مثل تتويج ملك، أو إقامة نصب لإله معين، أو تفشي وباء، أو موت ملك في حرب، طقوساً مستفيضة تحتاج إلى نصوص، إما أن تكون نصوصاً قديمة تمّ تحويرها، أو نصوصاً جديدة تُكتب خصيصاً للمناسبة، وذلك ما لا يستطيع توفيره سوى الكتبة.
ولا يقتصر الأمر على أن يكون الكتبة قادرين على الكتابة باللغتين الأكدية والسومرية، لكنهم إذا أرادوا أن يكونوا مؤهلين حقاً فيجب أن يكونوا قادرين على تناول مختلف مظاهر الحياة البابلية كتابةً. لذلك كانت تنطوي النصوص التي تعنى بتعليم الكتبة، من بين ما تنطوي عليه، على فئات مثل المعاجم (إعطاء القيمة الأكدية للكلمات السومرية أو الأجنبية)، وقوائم العلامات (إعطاء القيمة الأكدية للعلامات المسمارية أو لمجموعات العلامات)، المقاطع الكتابية، أو قوائم المترادفات، قوائم بالعلامات القديمة المهملة، التصريفات النحوية، النصوص الرياضية والفلكية، قوائم بالآلهة، شروح على نصوص قديمة، أثبات جغرافية، نصوص تعنى بفعاليات مثل صناعة الزجاج، نصوص عن الصيدلة والتداوي، قوائم تضم مختلف الأصناف مثل الحيوانات، والمباني، والتقدمات، والمعابد، والأشربة، والأطعمة، والموظفين.
نصوص دينية وسحرية
كانت الكثرة الكاثرة من مجموعات النصوص التي عُثر عليها في المكتبات القديمة، إذا استثنينا القلة التي يمكن وصفها بأنها أدب بالمعنى الضيق للكلمة، ترتبط جميعاً بطريقة ما بالعالم الغيبي. بعد نصوص الفؤول (التي ذكرناها سابقاً)، تعنى أكثر النصوص عدداً بالطقوس والأنماط المختلفة وما يرتبط بها من رقى وتمائم. وتكاد هذه النصوص تتناول جميع مظاهر الحياة. يمكن أن تعدَّ لصرف الشرور الواقعية أو الوشيكة كالمرض أو هجمة من ساحر أو الشياطين، لتوفير الحماية من الأخطار المحتملة عند اجتياز صحراء، للحصول على فؤول جيدة أو فضل من القوى الغيبية، حين تتم مباشرة عمل جديد، كتنصيب ملك، أو القيام بحملة، أو تأسيس معبد، أو إعطاء سلطات المعبد لطبل طقسي جلداً جديدا، أو شروع شخص ما ببناء بيت أو حفر بئر.
في بعض الحالات كانت الرقى والطقوس تُجمع في سلاسل طويلة. وتتوفر أمثلة على هذه في الرقى ضد شياطين الشر والسحر والخطيئة. تتجه سلسلة الرقى المعروفة باسم (مَقْلو) ضد الشعوذة التي يؤديها ممارسوها من كلا الجنسين، ورقى «شُرْبو» (؟:[ )urpu شرفو] ضد الخطيئة، التي تعامل على أنها عدوى غيبية. على أن أكبر المخاطر التي تتطلب حماية سحرية تتمثل في هجمات الشياطين، الذين يُعرفون في الديانة البابلية بأنهم آلهة، وهم الخطر الأكبر، لأن الآلهة وإن كانوا يمكن أن يعاقبوا فيجب أن يكونوا عادلين في الجوهر، بينما تتصرف الشياطين اعتباطياً وغالباً ما يتبنون مواقف عدوانية. وتدعى مجموعة الرقى والطقوس الرئيسية ضد الشياطين باسم (أوتكّو لَمْنوتو) (أي: شياطين الشر).
وهناك عدة فئات من الشياطين، التي يقال إنها لا شكل لها ولا جنس، وإن كان أخطرها: لَمَشْتو(أ) (انظر الشكل ٧٠)، قد اتخذ شكل امرأة. وكانت تشكل خطراً خاصاً على الأطفال والنساء عند الميلاد، برغم أنها قد تهاجم الرجال أيضا، وهي تحمل أسماءً مختلفة في هذه السياقات المختلفة. وكثيراً ما يشار في رقى (أوتكّو لَمْنوتو) إلى وجود سلسلة طقسية بأسرها توجه ضد لَمَشْتو، كما تستعمل التعويذات لاتقاء شرورها. ويدعى شيطان خبيث آخر باسم (بزوزو) ] Pauzuz [(ب)، الذي وإن كان يقترن في الأصل بالعواصف الرملية، فإنه صار يقترن بالأخطار الشيطانية بشكل عام. والتعويذات السحرية المستخدمة ضد بزوزو إما أن تتخذ شكل رأس قبيح، أو مخلوق برأس أسد، وجسم إنسان، وجناحين، وذيل (انظر الشكل ٧١).
وكانت هناك بعض النصوص ذات المحتوى الديني، هي في الأساس تراتيل وصلوات، يمكن اعتبارها أدباً بالمعنى الضيق للكلمة. وقد اتخذت التراتيل في الألفية الأولى شكلاً مختلفاً عن التراتيل الأقدم منها، إذ كانت التراتيل في الألفية الثالثة وبواكير الألفية الثانية تنحو إلى الثناء على المعابد أو الملوك، بينما صارت في التراتيل المتأخرة، مع بعض الاستثناءات، تجنح حصراً إلى الآلهة والإلهات.
النصوص الأدبية حصراً
اشتملت المكتبات المسمارية من الألفية الأولى على أساطير وملاحم، يعود الجزء الأكبر منها في الأصل إلى الألفية الثانية أو حتى الثالثة، ولكنها اكتسبت شكلها النهائي في الحقبة الكيشية. لقد ربطت «إنوما إيلش»، التي لم تُعرف إلا في نسخ من الألفية الأولى برغم أنها تحتوي على مادة أقدم من هذا العصر، بين موضوعتين، هما أسطورة خلق الكون، الذي أُنجز بعد صراع إلهي مرير مع الوحش البدئي «تيامت»، وتمجيد «مردوك»، إله بابل، لسيادته في مجمع الآلهة. وقد تم الربط عن طريق تحرير مادة قديمة لجعل «مردوك» ينتصر على «تيامت». وتشتمل أساطير قديمة أخرى كانت ما زالت قيد الاستعمال في الألفية على «أترا حاسس»، و«أنزو»، و«هبوط عشتار إلى العالم السفلي»، و«نرجال وأرشيكيغال».
عُرِفت «أترا حاسس»، التي هي في الأساس أسطورة خليقة أخرى، للمرة الأولى في الأكدية بنسخة ذات ألواح ثلاثة من الحقبة البابلية القديمة، وفي زمن مكتبة آشور بانيبال تمت مراجعتها في نسخة ذات لوحين. وهي تفترض عالماً ليس فيه بشر، كان الآلهة الأحدث سناً يؤدون فيه الأعباء الثقيلة بحفر القنوات. لم يعجبهم هذا العمل، فأعلنوا الإضراب وتظاهروا تظاهراً عنيفاً ضد «أنليل». استشار أنليل كبار الآلهة، واتخذ القرار بتخليص الآلهة من عناء العمل، وذلك بخلق الإنسان الذي يتكبد العناء بدلاً عنهم. وقد تمَّ خلق الإنسان بخلط الطين بدم إلهٍ ذبيح، وهكذا صار الإنسان ينطوي على قبس إلهي. وحين أحدث البشر الهرج والمرج فيما بعد، اضطر الآلهة إلى اتخاذ قرار بتقليل السكان، في البداية عن طريق إحداث المجاعة فيهم، وكانت من الشدة بحيث دفعتهم إلى أكل بعضهم، ثم عن طريق طوفان عظيم. وقد انطوى النص على شذرات من الطقوس المتعلقة بالزواج والميلاد.
أما «أنزو»، المعروفة أيضاً بنسخة بابلية قديمة، فتعنى بالهزيمة التي يلحقها الإله المحارب «نينورتا» بوحش- طائر سابق على التجسيم يحمل اسم «أنزو»، ويمثل العواصف التي كانت تعصف بالجبال (انظر الشكل ١١).
و«هبوط عشتار إلى العالم السفلي» هي نسخة منقحة ومختصرة من أسطورة سومرية قديمة. تقرر عشتار الهبوط إلى العالم السفلي، حيث تحكم أختها العدوانية أرشيكيغال. يُقبَلُ بها، لكنها يجب أن تمر بسبع بوابات، ويجب أن تتجرد عند كل بوابة منها من بعض شاراتها، حتى تصل أخيراً عارية لا حول لها وعاجزة عن الهرب. وكان غيابها قد نزع من الأرض خصوبتها، مما يدعو الإله «إيا» إلى الاستعانة ببغي ذكر، لم تكن تسمح له النواميس المتبعة في دخول العالم السفلي، لإطلاق سراحها. ومن الواضح أن الأسطورة تشكلت مرتبطة بالخصوبة الموسمية، وهي تكشف عن موضوعات فرعية تتعلق بالعبادة الجنسية لعشتار.
أما «نرجال وأرشيكيغال» فلا نعرفها من نسخ تنتمي إلى الألفية الأولى فحسب، بل أيضاً من نسخة قصيرة من القرن الخامس عشر عُثِر عليها في تلِّ العمارنة في مصر. تصرّف نرجال مزدرياً أرشيكيغال، ملكة العالم السفلي، وأُرسِل إليها لينال جزاءه، لكنه ينتهي بأن يتزوجها. ويعود تصوّر أرشيكيغال كملكة للعالم السفلي إلى أزمنة ما قبل التاريخ، أما سيادة نرجال هناك فلم تبدأ حتى أواخر الألفية الثالثة أو بواكير الألفية الثانية. تقدم الأسطورة تفسيراً لاهوتياً لمفهوم تغير يرتبط بالتقلص التدريجي لمنزلة المرأة.
والأسطورة الأخرى التي تنقلها لنا المكتبات القديمة هي أسطورة «إيرا»، المتعلقة بإله وباء (وهو صورة أخرى من نرجال) ينهض من الكوارث والكروب التي حلت ببابل في القرن الثامن.
والملاحم الأساسية التي كانت معروفة على نطاق واسع في الألفية الأولى هي «ملحمة جلجامش» (انظر ص 109-112)، و«أدبا»، و«إيتانا». كان أدبا صياداً كسر جناح ريح الجنوب، التي قلبت قاربه، فاستدعاه الإله الكبير «آنو» لتفسير ما فعلت يداه. قدم له آنو خبز الخلود وماء الحياة، لكن الإله الحكيم «إيا» منعه بحيلة من المشاركة معهم، وهكذا فقد البشر فرصة الخلود. وتروي «إيتانا» قصة بطل لم يرزق بطفل، هو ملك كيش، يرافقه صقر، ويأخذه إلى السماء على ظهره مؤملاً أن يرزق بابن. ولا بدَّ أن القصة قديمة جدا، لأن هناك أختاماً أسطوانية من الألفية الثالثة تصور بطلاً على ظهر صقر (الشكل ٧٢).
وتتضمن أعمال أدبية أخرى في مكتبة كوينجق خرافات عن الملوك الأوائل، مثل أسطورة ميلاد سرجون الأكدي (انظر الفصل الرابع)، ونصوص أخرى تتعلق بسرجون ونرام سين الأكدي.
ولا بدّ أن يدرج المرء كأدب بالمعنى الحصري للكلمة بعض نصوص الحكمة، أي المؤلفات التي تماثل في نوعها بعض الكتب المقدسة كما في «سفر أيوب» و«سفر الجامعة». ويتمثل أقدم نموذج معروف على هذا في نص سومري من منتصف الألفية الثالثة، يأخذ شكل نصائح يوجهها أب لابنه. ويطلق على نص حكمة مهم، كُتب في الحقبة الكيشية، وعثر عليه في كوينجق وفي مكتبات أخرى من الألفية الأولى، اسم «لدلول بيل نيميقي»، ومعناه «لأمجدنَّ ربَّ الحكمة». وفيه يصف رجل نبيل سلسلة طويلة من المصاعب والويلات التي اصطبر عليها قبل أن يعيد إليه الإله «مردوك» صحته وعافيته، ومثل «سفر أيوب»، ولكن على مستوى أدنى، يتفحص العمل مشكلة المعاناة. ويتمثل عمل ثانٍ عن أدب الحكمة في «العدالة البابلية»، يتخذ شكل حوار بين معذب يستعرض وجوه الظلم الإلهي، وصديق يحاول أن يوضح على أساس المعتقدات المتداولة بأنه لا يوجد ظلم. والعمل قطعة ذكية من صنعة الكتبة المحترفين، يأخذ شكل تلميح بالحروف الأولى (acrostic) حيث يبدأ فيها كل أحد عشر بيتاً من كل قطعة بمقطع جديد، وتكوّن المقاطع في مجموعها جملة تسمي المؤلف. ربما تكون قد كتبت زهاء ١٠٠٠ ق م. وهناك عمل آخر يتخذ شكل حوار، «حوار المتشائم» وهو سلسلة من تبادل الأحاديث بين سيد وعبده، يعرض السيد لمختلف ضروب الأفعال، ويكون الثاني دائماً مناقضاً للأول، ويوافقه العبد الرأي متملقاً في كل حين. وهذه هجائية، لكنها هجائية يراد منها فحص الهدف من الحياة.
(هذا المقال هو الفصل التاسع من كتاب: البابليون لساكز، من منشورات المتحف البريطاني، 1995.)
الهوامش
(١) وترمان: المراسلات الملكية للإمبراطورية الآشورية (آن آربور، 1936)، ص 275.
(٢) م. ل. أوبنهايم: العراق القديم (شيكاغو، 1964)، ص 16.
(٣) نصوص مسمارية من ألواح بابل في المتحف البريطاني (لندن، 1906)، اللوحة ١، العدد١.
(٤) دليل الألواح المسمارية لمجموعة كوينجق في المتحف البريطاني (لندن، 1899)، ص ٢٢.
(أ) هل لهذا الاسم علاقة بشيطان اللُمزة الذي عرفه العرب قبل الإسلام، وأشار إليه القرآن الكريم؟
(ب) يمكن تعريب هذا الاسم بالفزّاز، وإذا كان يرتبط بالعواصف الرملية، فإن الفزاز يمكن أن يرتبط بها أيضاً من خلال ارتباطه بالمفازة.