آخر الأخبار

انقلاب 28-3-1962الجزء الأول

في صبحية الثامن والعشرين من آذار 1962 بدأت الاذاعة السورية تذيع البلاغات التالية :

البلاغ رقم 26: ينص على تسلم الجيش زمام الأمور اعتبارا من 28 آذار 1962 تحقيقا لرغبات الشعب وحفاظا على مكاسبه.

البلاغ 27 : اغلاق الحدود السورية .

البلاغ 28 : حل المجلس النيابي لانه عجز عن القيام بالمهمة الموكولة اليه وسعى لتأمين مصالح اعضائه ومنافعهم الشخصية.

البلاغ 29 : اعلان قبول استقالة رئيس الجمهورية لأسباب صحية.

البلاغ 30 : اعلان استقالة رئيس واعضاء مجلس الوزراء.

البلاغ 31 : اعلان حل المجلس، وحتى تتشكل حكومة انتقالية تتولى قيادة الجيش مهام السلطتين التشريعية والتنفيذية.

البلاغ 32 : منع المظاهرات والتأكيد بأن حالة الطوارئ ما تزال قائمة.

البلاغ 33 : صدور المرسومين التاليين :

1- يؤازر القيادة العامة للجيش الأمناء العامون ويتولى كل منهم سلطات واختصاصات الوزير لادارة شؤون وزارته بالاضافة الى اختصاصاته.

2- يتولى قادة المناطق السلطات العسكرية والمدنية في مناطقهم ويخضع لهم الموظفون المدنيون.

ومن الجدير بالذكر ان انقلاب 28 آذار 1962 - على غير عادة الانقلابات العسكرية التي تبتدئ بالبلاغ رقم واحد - قد ابتدأ بالرقم 26 وهو الرقم الذي انتهت اليه بلاغات انقلاب 28 ايلول 1961 للدلالة على ان هذه الحركة ليست انقلابا جديدا وانما هي تتمة لانقلاب 28 ايلول 1961.

كما أذاعت قيادة الجيش في تبريرها للانقلاب العسكري البيان التالي:

بيان قيادة الجيش عن أسباب الانقلاب :

ان الجيش قام بحركة 28 ايلول 1961 لتصحيح الاخطاء وانقاذ الوحدة المقدسة، ولكن المسؤولين آنذاك (ويقصد جمال عبد الناصر) لم يتفهموا حقيقة الثورة ولا أهدافها. فأعلنوا أنهم لا يقبلون المساومة ولا أنصاف الحلول فأوكل الجيش امور السياسة في سورية الى حكومة انتقالية ، فكان على عهده في العودة الى الثكنات رغم الاخطاء التي اقترفتها الحكومة الانتقالية وسكت الجيش عن ذلك، وفي هذه الفترة كانت بعض العناصر الاستغلالية في عملاء الاستعمار تحيك المؤامرات وتدس الدسائس ، وكان الجيش قد ظن أنها اعتبرت ورجعت عن غيها ولكنها استطاعت أن تتسلل للسلطة التشريعية والتنفيذية، فابتعدت بهما عن مهمتهما الاساسية وعطلت القوانين ومكاسب العمال والفلاحين، وراحت تصدر التعليمات والأوامر التي تناقض التشريعات والقوانين، وتعمل على ضرب الفلاحين وطردهم من قراهم وانتزاع اراضيهم منهم، وحملهم على تركها والهجرة منها، واعادة سيطرة انصارهم ومحاسيبهم فهدمت بيوت الفلاحين على رؤوسهم، وأحالت أراضيهم المزروعة بعرقهم الى خراب، كما راحت هذه العناصر تعمل جاهدة للابقاء على التشريعات التي تجعل مكاسب العمال صورية وغير حقيقية، فنسفت بذلك الحقوق وداست المكاسب وخنقت الحريات، ولم تعمل على تحقيق الاستقرار.

كما استطاعت هذه العناصر المتآمرة أن تنفذ الى الوزارات فملأتها بالمحاسيب والانصار، وطالبت برفع رواتب النواب واستيراد السيارات، وتوصلت الى السيطرة على أجهزة الاعلام، فجعلتها منبرا لها، وداعيا لمصلحتها وأشخاصها. هذه العناصر ظنت ومن ورائها الاستعمار وأعوانه والذين يعملون لحسابه ومصلحته، ان الجو خلا لها، فأسفروا عن وجههم، وراحوا يتآمرون على سلامة البلاد وأمنها، ونسوا أو تناسوا ان الجيش الذي كان وسيبقى أبدا الدعامة الوطنية العربية الراسخة للمحافظة على أرض الوطن.

وراح الجيش يوجه النصح والتحذير في السر والعلن ويوضح الدليل على خطورة الموقف، وان الاستعمار لم تغفل عينه عن سورية، وثبتت بالدليل القاطع نوايا الاستعمار الذي دفع اسرائيل للعدوان. ولقد راح الجيش يطالب المسؤولين بالكف عن حماية العناصر التي تآمرت على سلامة البلاد، وامتدت ايديها الى الغير فقبضت مئات الألوف ليصار الى احالتها الى القضاء، ولم يترك بابا الا وطرقه الا انه لم يلق من المسؤولين الا حماية هذه العناصر، فراحوا يراوغون ويماطلون أملا في كسب الوقت.

وهكذا سيطرت العناصر المستغلة سيطرة لم يعد ينفع معها نصح ولا تحذير، كما لاحظ الجيش ان المسؤولين حاولوا التسلل الى صفوف الجيش بهدف استمالة بعض عناصره وذر الخلاف والتشكيك. ولاحظ أن بعض المسؤولين يستغل اسمه ويزجه بالأمور السياسية بما يتفق مع مصالحه، لذلك ترى القيادة العامة والقوات المسلحة نفسها مضطرة لاقصاء المسؤولين عن الحكم وابعاد العناصر المتآمرة، وتسليم الزمام الى حكومة مؤقته وهي ستحمي ثورة الثامن والعشرين من أيلول، وتقضي على كل من يقف في طريقها، وستضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه تعكير الأمن. ثم أعلن البيان برنامجه السياسي :

في الحقل الداخلي : صيانة الحريات العامة وتمكين جميع المواطنين من ممارستها.

تحقيق اشتراكية عربية بناءة واضحة تساير الوضع الاقليمي وتحفظ للعامل والفلاح حقوقهما وتشجع الجهد الفردي.

في الحقل العربي : اتخاذ خطوات ايجابية لتحقيق وحدة عربية حقيقية شاملة مبنية على اسس واضحة وصحيحة مع الاقطار العربية ولا سيما مع مصر الحبيبة والعراق الشقيق واعتبار قضية فلسطين القضية الاولى للعرب.

في الحقل الدولي : الحياد الايجابي، المحافظة على المواثيق الدولية واحترام المعاهدات والاتفاقات.

في يوم 30 آذار عقد عبد الكريم زهر الدين مؤتمرا صحافيا في نادي ضباط حامية دمشق حضره العميد عبد الغني دهمان قائد موقع دمشق واللواء نامق كمال رئيس هيئة الأركان والعقيد عدنان الشيخ فضلي قائد منطقة دمشق، وقد ألقى عبد الكريم زهر الدين في هذا المؤتمر بيانا مكتوبا خلاصته :

ان هذه الحركة تتمة للحركة الثورية التي حدثت في 28 ايلول، وان المسؤولين سيحاكمون امام محكمة الشعب التي ستشكل هذين اليومين من عسكريين ومدنيين، كما شكلت لجان لاعادة النظر بالقوانين التي صدرت .

وعندما سئل عن التهم المنسوبة لبعض اعضاء الحكومة والنواب وعن اتصالهم بالاستعمار ، أجاب :

ان محكمة الشعب ستحاكم هؤلاء وستكون المحاكمة علنية وان كل التهم ستظهر بوضوح .. وسئل عن البيان الذي صدر عن اجتماع الرطبة فقال :

ان قيادة الجيش لا تعارض هذا البيان ولا مانع لديها من نشره مرة أخرى. وسئل عن العلاقات مع مصر فقال :

لقد نادينا منذ الدقائق الأولى بأننا نرحب بجميع العلاقات بيننا وبينها القائمة على أسس صحيحة، كما قال ان سورية ستنتهج سياسة التقارب مع كل الدول العربية الشقيقة ولا سيما الدول المتحررة وهو الهدف الذي تسعى اليه القيادة حتى تتم الوحدة العربية الشاملة التي يراعى فيها التعاون على أسس تحفظ الكرامة والمساواة.

كما نشرت مجلة الجندي الصادرة في 30 آذار تصريحا لزهر الدين جاء فيه:

"أنا أعلنت في جلسات المجلس الأعلى للأمن الوطني عدة مرات ان شعبنا لا يتساهل أبدا في ضياع مكاسبه التي حققها بدمه ودمعه في ثوراته المختلفة ونضاله العنيد المستمر، وقلت ان كل انتقاص من حقوق الفلاحين والعمال معناه اغتيال أمن الشعب وطعنه من الخلف لحساب طبقة أو فئة معينة.

في الأيام التالية لانقلاب 28 اذار 1962 بدأت بعض الاخبار المقلقة تتوارد بأن الاضطراب يعم الجيش، وان قطعات الجيش الموجودة خارج دمشق لم تتجاوب مع قادة الانقلاب، وأن تمردا في حلب يقوده الضابط محمد عمران، وأن عددا من الضباط قد قتل.

كانت ثلاثة أيام قد مرت على الانقلاب والموقف ما زال غامضا، وفي اليوم الثالث وحوالي الساعة الخامسة صباحا سمعت الباب يطرق .. كان أحد ضباط الجيش ومعه ثلة من الجنود، وكان الضابط كما يبدو دمشقيا مهذبا، دخل وحده الى البيت، وأمر جنود بالبقاء خارجا، ثم طلب مني أن أستعد لمرافقته ، وعندما سألته: هل أعد حقيبة ثياب لمدة طويلة أجابني بنعم.

عند وصولي الى السجن عوملت معاملة مختلفة:

كان السجان ضابطا فظا أمرني بغلظة أن أخلع رباط الرقبة وأن أفك رباط حذائي ثم أدخلني زنزانة، وعلمت فيما بعد أن مصطفى حمدون وخليل كلاس قد أدخلا ايضا الى الزنزانات.

بعد فترة قليلة لا تتجاوز الساعتين جاءني الضابط نفسه وأبلغني أمر الافراج عني وانني مدعو الى اجتماع في مبنى الاركان مع قائد الجيش عبد الكريم زهر الدين، حيث كان معه هنالك الضابط عبد الكريم النحلاوي، وقد حضر هذا الاجتماع ايضا مصطفى حمدون، وكان الاثنان مضطربين وقد أسقط في يدهما بعد التمرد الذي حدث في حمص وفي حلب وكانا يبحثان عن وسيلة للورطة التي وقعا فيها.

كما تبين لي أن سبب اعتقالي ظن قيادة الجيش انني وراء التمرد الذي وقع في حلب لاشتراك بعض الضباط البعثيين، ولكن سرعان ما أفرج عني عندما تبين لهم أن لا علاقة لي بما حدث في حلب، فقد بدأت اذاعة القاهرة بدعم هذا التمرد مستثيرة النزعات الطائفية بصورة تؤدي الى شرخ الوحدة الوطنية التي ناضل الشعب السوري لأجلها بمختلف طوائفه، وهو الأمر الذي مارسته المخابرات المصرية ايضا خلال الوحدة.

قلت في ذلك الاجتماع لعبد الكريم زهر الدين وعبد الكريم النحلاوي وقد رأيت ان المناسبة قد جاءت لطرح قضية عودة الضباط المسرحين ذوي الميول البعثية الى الجيش:

لقد كان رأيي دائما انه لا سبيل الى الاصلاح الا بالطرق الدستورية الديموقراطية، أما الآن وبعد هذا الاضطراب الذي حصل فإن عودة الاوضاع الطبيعية للجيش لا تكون الا بعودة الضباط الذين سرحوا سواء في عهد الوحدة أو في عهد الانفصال. كما قلت :

لقد كان من جملة الاسباب التي ابديتموها عندما انقلبتم على عبد الناصر، ان عهد الوحدة قد سرح أعدادا كبيرة من الضباط، ثم اقترفتم أنتم الخطأ نفسه، عندما تابعتم هذه التسريحات وركزتم على الضباط ذوي الميول البعثية فسرحتم منهم أكثر من ستين ضابطا.

لقد ظننت بنتيجة هذا الاجتماع أن زهر الدين والنحلاوي قد اقتنعا برايي ، اذ طلبا مني أن أعد قائمة بأسماء الضباط ذوي الميول البعثية الذين أرى ضرورة إرجاعهم الى الجيش.

بعد هذا الاجتماع عدت الى منزلي مع مصطفى حمدون وطلبت منه أن يقدم لزهر الدين القائمة المطلوبة، ولكن زهر الدين لم يف بوعده بعد أن تمكن من القضاء على الحركة التي بدأت بحمص ثم امتدت الى حلب، وصرف النظر عن اعادة الضباط ذوي الميول البعثية الى الجيش، وكان لذلك آثاره التي أدت بعد سنة الى انقلاب الثامن من آذار 1963.

تمرد في حمص وعصيان وفتنة في حلب ردا على انقلاب 28 آذار 1962.

أعلن العميد بدر الأعسر قائد المنطقة الوسطى في حمص بعد ثلاثة أيام من انقلاب الثامن والعشرين من آذار مقاومته لهذا الانقلاب ، طالبا وضع حد لتسلط النحلاوي وجماعته على قيادة الجيش في دمشق، ووجوب مغادرتهم سورية فورا، فاضطرت قيادة الجيش في دمشق الى ارسال لجنة من الضباط في اليوم نفسه الى بعض المدن السورية لاستطلاع آراء الجيش في مختلف القطعات ولبحث هذا الموضوع الخطير وتسوية الخلافات بين ضباط الجيش الذي عقدت قياداته بتاريخ 1/4/62 مؤتمرا في حمص تقرر فيه بالاجماع ما يلي :

أولا : اقصاء المتسلطين على الجيش (النحلاوي وجماعته) على أن يغادروا البلاد في اليوم التالي قبل الساعة الخامسة مساء.

ثانيا: تشكيل قيادة جديدة.

ثالثا: رفض اعادة الوحدة مع مصر فورا، والموافقة على تحقيق وحدة مشروطة ومدروسة، على أن يستفتى بها الشعب، وقرر الضباط أنهم ليسوا أوصياء على الشعب.

رابعا: العفو عن الذين اشتركوا بالتمرد والعصيان.

ولكن بعض الضباط البعثيين والناصريين بقيادة جاسم علوان في حلب تابعوا عصيانهم وأعلنوا عدم قبولهم بهذه المقررات فرفعوا علم الجمهورية العربية المتحدة وطلبوا المؤازرة من مصر ولم يلبث عصيانهم ان باء بالفشل بتاريخ 4/4/62 وكان حصيلته استشهاد الضباط : نصوح النعال، كامل عرنوس، جميل قباني، صفوت خليل.

لقد أصدرت محكمة أمن الدولة التي نظرت في جرائم هذا العصيان الاحكام التالية بتاريخ 17/1/1963.

1- الحكم بالاشغال الشاقة المؤبدة على العقيد المتقاعد جاسم علوان.

2- الحكم عشر سنوات على الرائد حمد عبيد.

3- الحكم بالاعدام على الملازم الأول محمد ابراهيم العلي.

4- الحكم بالسجن المؤبد على الملازم الأول سعيد الدباح.

5- الحكم بالاعدام على العسكري المتطوع محمد مصطفى يوسف، والسجن بين سنة وعشر سنوات مع التجريد من الرتب والحقوق المدنية لباقي المتهمين، وتبرئة من لم تثبت عليه تهمة الاشتراك في القتل والعصيان.

وقد اثبتت تحقيقات المحكمة مساهمة القنصلية الاميركية في حلب بالتحريض على العصيان وتوزيع صور جمال عبد الناصر على المتظاهرين، كما رفعت المحكمة احكامها الى رئيس الجمهورية للتصديق عليها. (نشرت التفاصيل الكاملة لهذه القضية في ملحق خاص للعدد 589 من مجلة الجندي الصادرة عن الجيش السوري).

وبعد أن صدر قرار المحكمة بإدانة القنصل الاميركي في حلب بالتحريض على العصيان وتوزيع صور عبد الناصر، طلبت الحكومة السورية سحب القنصل، ولكن السفير الاميركي قال لخالد العظم الذي أصبح في تلك الفترة رئيسا للوزراء ان حكومته ابلغته بأن سحب القنصل سيكون له ردة فعل غير مستحبة في أمريكا.

بعد مغادرة عبد الكريم النحلاوي وضباطه سورية، وبعد فشل عصيان حلب، وكان قد مر على الأحداث ما يقرب من اسبوع زارني في دمشق قنصل الولايات المتحدة في حلب، ولم يكن لي به سابق معرفة، فقال انه يود التعرف بي وانه يحمل عاطف ودية نحو سورية، قلت له بعد أن نددت بالسياسة الاميركية تجاه القضية العربية:

ما دمت تحمل هذه العواطف الودية نحو سورية، فلماذا إذن قمت مع رجالك بالتحريض على التظاهر في حلب وبتوزيع أعداد كبيرة جدا من صور عبد الناصر؟

قال القنصل ضاحكا :

اننا فعلا قمنا بتوزيع بعض الصور في حلب، ولكنها كانت صورا لممثل أمريكي يشبه عبد الناصر.

ان السؤال الذي يطرح نفسه الآن :

لماذا أصبح الاميركيون خصوما للوضع القائم بعد الانفصال؟

لا شك ان اتجاه الرأي العام في الشعب والجيش بعد انقلاب 28/9/1961 قد بدأ يسير في الطريق الذي كانت تسير عليه سورية قبل الوحدة.

ففي مواجهة مطامع اسرائيل التوسعية بتحويل نهر الأردن، كان الجيش وراء ايفاد وزير الدفاع مع وفد عسكري كبير الى موسكو، مما أثار أوهام الاميركيين من جديد من انتشار الشيوعية، ولا سيما بعد أن زال اضطهاد عبد الناصر للحزب الشيوعي، واتجاه الوضع الى تشكيل محور مع عبد الكريم قاسم الموالي للاتحاد السوفيتي. كما زال عزل القوى اليسارية الوطنية عن الحياة الحزبية والسياسية، هذه القوى التي هي بنظر الولايات المتحدة اكثر خطرا من الأحزاب الشيوعية، بالاضافة الى خطر اشتعال الحرب بين سورية واسرائيل، الأمر الذي يهدد الأمن والنفوذ الاميركي في المنطقة، وذلك بعد المعركة الكبيرة التي خاضها الجيش السوري تجاه العدوان الاسرائيلي مما يعرقل تحويل مجرى نهر الاردن الذي اقترب موعده، لأن انشاءات نقل مياهه الى النقب قد قاربت ان تنتهي، وكنا دائما نطالب، سرا وعلنا، بالوقوف في وجه اسرائيل في محاولتها تحويل نهر الأردن.

يضاف الى كل ذلك ان الفئات السياسية اليمينية التي استلمت الحكم بعد الانفصال والموالية للغرب قد سقطت سقوطا ذريعا امام الرأي العام السوري بعد اذاعة الحقائق المذهلة التي تضمنتها اضبارة التحقيق بمؤامرة عبد الكريم الدندشي، هذه الاضبارة التي بقيت حبيسة أربع سنوات في الأدراج السرية لعبد الناصر ثم استخدمها في 23/2/1962 في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة ذكرى الوحدة كما اشرت الى ذلك سابقا:

لقد اصبح الوضع فيما لو أجريت انتخابات جديدة مهيأ لاستلام القوى الوطنية التقدمية المعادية للصهيونية وللنفوذ الاجنبي في سورية مقاليد الأمور، هذه القوى التي ألف بينها الاضطهاد الناصري واكتسبت بعد الانقلابات التي مرت بسورية وبعد الوحدة تجربة سياسية كبرى.

لم يكن هدف الولايات المتحدة اعادة الوحدة بين سورية ومصر، رغم التحسن الكبير في العلاقات بين مصر والولايات المتحدة في تلك الفترة التي تعددت فيها الرسائل الودية المتبادلة بين الرئيس ناصر والرئيس كندي (سنوات الغليان ص 604-617) وانما كان هدفها اقامة حكم عسكري في سورية وهذا ما جعل القنصل الاميركي وموظفيه، وخلافا للأعراف الدبلوماسية ، يتدخلون في أحداث حلب. أما زيارته لي، بعد فشل الانقلاب، فلا شك أن هدفها كان التحذير من السياسة التي كنا ننتهجها والمعادية للمشاريع الاسرائيلية التوسعية المدعومة من الولايات المتحدة.

وبهذه المناسبة أذكر ان فائق النحلاوي أمين سر المجلس بلغني أوائل عام 1962 بعد الانفصال ، وكان ذلك في مطلع حياة المجلس النيابي التأسيسي أن دعوة قد وجهت من الولايات المتحدة لاستضافة وفد برلماني سوري، وقد قرر الفريق البرلماني المختص بموضوع العلاقات البرلمانية الخارجية قبول الدعوة وتشكيل وفد مؤلف من ممثلي مختلف الكتل البرلمانية والمستقلين، وقال انني اخترت كممثل عن الكتلة الاشتراكية، فاعتذرت بالرغم من الحاح اعضاء الوفد وقولهم انها فرصة لزيارة الولايات المتحدة والتعرف عليها.

بعد اعتذاري اتصل بي عبد الغني قنوت وقال لي:

هل توافق على ذهابي بدلا عنك، إن في ذلك فائدة لاطلاعنا على ما سيدور من أبحاث بين الوفد وبين الادارة الاميركية، قلت له لا مانع من ذلك.

بعد عودة الوفد اخبرني عبد الغني قنوت انه خلال اجتماع الوفد في وزارة الخارجية الاميركية جرى استعراض للموقف الأميركي من القضية العربية وركز الوفد على ضرورة وقوف الولايات المتحدة على الحياد بين العرب واسرائيل، والذي لفت نظر عبد الغني قنوت واعضاء الوفد ان الاميركيين قد أثنوا على سياسة صلاح البيطار وعلى صدقه واستقامته في التعامل معهم، مما دعا أعضاء الوفد بعد خروجهم من الاجتماع ولا سيما رشاد جبري وفيضي الاتاسي الى الغمز والتندر قائلين:

انكم تتهمونا بعلاقاتنا مع الولايات المتحدة والغرب بينما الذي ظهر من هذا الاجتماع ان علاقاتكم هي أقوى وأكثر وثوقا من علاقاتنا.

كما أخبرني عبد الغني أن حديثا أجراه معه أحد الموظفين الاميركيين بلغه فيه: إن الولايات المتحدة لا يمكن أن تؤيد أي نظام في العالم الثالث ما لم يكن فيه قائد الجيش ورئيس المخابرات على اتفاق تام مع الولايات المتحدة الاميركية.. وكان هذا الحديث رسالة موجهة الينا من قبل المخابرات المركزية الاميركية، فيما إذا كنا نفكر باستلام الحكم بانقلاب على الوضع القائم في سورية.

أسباب فشل انقلاب 28/3/1962 :

كان من أسباب فشل انقلاب 28/3/1962 الذي قام به النحلاوي وضباطه هو أن الرأي العام في الجيش السوري يعتبرهم مشتركين بالمسؤولية مع المشير عبد الحكيم عمر والضباط المصريين في تسريح عدد كبير من ضباط الجيش ونقل بعضهم الآخر الى القاهرة حيث لم يستلموا هنالك أي مسؤولية تناسب رتبهم. كما نقل عدد منهم الى الوظائف المدنية، وقد استمر النحلاوي وضباطه بعد الانفصال بهذه التسريحات ولا سيما تسريح الضباط المعروفين بولائهم للبعث والتقدميين بصورة عامة، فقد أصدرت قيادة الجيش بتاريخ 2/12/1961 قرارا بتسريح 73 ضابطا من الجيش السوري معظمهم من الموالين للبعث وان ذلك من الأسباب التي دعت العقيد بدر الأعسر قائد المنطقة الوسطى لاعلان موقفه المناوئ لتسلط النحلاوي وجماعته على الجيش ومطالبته معه أن يغادروا البلاد واستنكاره تعطيل الحياة الدستورية على هذه الصورة مع إعلانه ان الجيش ليس وصيا على الشعب، ثم تبع عصيان حمص تمرد بعض الضباط الموالين للبعث في حلب وكان تدخل العقيد جاسم علوان في تمرد حلب البعثي محاولة ناصرية جاءت متأخرة للانقلاب على انقلاب 28/3/1962.

لقد أدى تسريح النحلاوي لعدد كبير من الضباط الموالين للبعث بعد الانفصال الى انعكاسات سيئة علي وعلى الكتلة الاشتراكية في مجلس النواب لعدم اثارتنا قضيتهم في المجلس . فقد كانوا يأملون أن نستقيل من المجلس احتجاجا على تسريحهم مما جعلهم يحملوننا مسؤولية التخلي عنهم.

إن تسريح الضباط الموالين للبعث سواء منه ما تم خلال الوحدة أو ما تم بعد الانفصال، كان الدافع للعصيان في حلب بمعزل عن مشورتنا ومعرفتنا، كما كانت هذه التسريحات سببا مهما من الأسباب التي أدت الى انقلاب الثامن من آذار 1963 بتحالف الضباط الموالين للبعث مع الضباط الناصريين مرحليا.

الآثار التي تمخض عنها انقلاب 28 آذار 1962 :

لقد كان لانقلاب 28 آذار آثاره البعيدة المدى على مستقبل الأوضاع في سورية والمنطقة العربية. فقد أحدث هذا الانقلاب الدامي آثاره الطائفية المقيتة، فدمشق بأسرها حزنت على أبنائها من الضباط الذين أودى بهم عصيان حلب، وفي مقابل ذلك وصلتني رسائل من بعض القرى في شرقي حمص ومن منطقة اللاذقية تستنجد بي لانقاذ الموقوفين المتهمين بحوادث حلب. وراجعني أهل العديد من الضباط الموقوفينن وفيهم ضباط من حماه (رئيف العلواني وغيره) للسعي لاطلاق سراح الموقوفين، وقد زارني في تلك الفترة الضابطان المسرحان صلاح جديد وعبد الكريم الجندي للغرض ذاته، ولكنني في الحقيقة كنت عاجزا عن القيام بأي مساعدة.

كان اعتقادي ان واجبي يقضي أول ما يقضي وضع حد للآثار الطائفية التي خلفتها أحداث حلب، ثم السعي فيما بعد الى عدم تنفيذ الاحكام او التخفيف منها، ولا سيما أن مؤتمر الجيش في حمص قد قرر وجوب اصدار عفو عن المشتركين بحوادث العصيان، لذلك اتصلت بالصديق القاضي بدر علوش وقلت له :

أنت تعلم يا بدر انني لم أتدخل في حياتي بالقضاء ، ولكن هذه القضية ليست من الجرائم العادية، انها قضية سياسية كبرى، قد يكون لها نتائجها على مستقبل الأوضاع في سورية لذلك أرجو منك أن تنقل على لساني الى عضو المحكمة أحمد الراشد (وهو من مدينة حماه) ضرورة حصر الاتهام بعدد قليل من المشتركين بحوادث العصيان.

وعندما صدرت الاحكام بحق بعض المتهمين، تابعت هذه المهمة الخطيرة فاتصلت بالاتفاق مع وهيب الغانم وفيصل الركبي وبعض الرفاق الآخرين، برئيس الجمهورية ناظم القدسي وحذرته من مغبة المصادقة على أحكام الاعدام. وشرحت له المحاذير التي ستتأتى عن ذلك وانه من الواجب صرف النظر عن تصديقها حتى تطوى صفحة 28 آذار السوداء التي كادت أن تثير النعرات الطائفية في البلاد.

المذكرات تساهم في الكشف عن أحداث انقلاب 28 آذار 1962 :

لقد كشفت مذكرات عبد اللطيف البغدادي الصادرة عام 1977، ومحادثات الوحدة الثلاثية بعد الثامن من آذار 1963، ومذكرات عبد الكريم زهر الدين الصادرة عام 1967 وكتاب محمد حسنين هيكل سنوات الغليان الصادر عام 1988 كثيرا من الوقائع التي تمكننا من استعراض تسلسل الأحداث منذ الانفصال وحتى انقلاب الثامن والعشرين من آذار، ذلك الانقلاب الذي هدد بالاقتتال بين قطعات الجيش السوري واستشهد فيه عدد من الضباط، كما هدد باذكاء الفتنة الطائفية.

لقد كان ضباط الانفصال يطمعون بحكم سورية تحت قيادة المشير عبد الحكيم عامر -كما اشرت الى ذلك سابقا- ولهذا صدر البلاغ رقم 9 يوم 28 ايلول 1961 الذي اقتصر فيه ضباط الانفصال على المطالبة باصلاح أوضاع الجيش بالاتفاق مع المشير، ولكن هذه المحاولة لم تخف على عبد الناصر فرفض مصالحتهم واعتبرهم عصاة متمردين، واستدعى المشير الى القاهرة الذي لم يتمكن من اقناع ناصر بالتفاهم مع النحلاوي وجماعته في الجيش.

هذا كان موقف جمال عبد الناصر ، أما موقف الجيش السوري فقد اثار البلاغ رقم 9 احتجاجه بل وثورته، حتى لقد هدد العديد من قطاعات الجيش النحلاوي وجماعته بأنهم سيهدمون مبنى وزارة الدفاع على رؤوسهم اذا لم يتراجعوا عن البلاغ المذكور.

لقد وقع ضباط حركة 28 ايلول في مأزق بعد أن فشلوا في التفاهم مع عبد الناصر بعد صدور البلاغ رقم 9، كما كانوا عاجزين في الوقت ذاته عن تولي الحكم مباشرة فاتخذوا من عودة الحياة البرلمانية مرحلة موقتة لاعادة التفاهم مع جمال عبد الناصر وتطمينه بأنهم مخلصون لقيادته دون سواه، ولكنهم بالوقت ذاته كانوا غير مطمئنين لعودة سلطة جمال عبد الناصر بشكلها السابق ولذلك طالبوا بصيغة جديدة تضمن لهم حكم سورية في ظل الوفاق والتفاهم معه، والذي أقنعهم اكثر بضرورة هذا التفاهم هو ردود الفعل الغاضبة في الجيش على تصرفات الحكومة والمجلس النيابي التي ذكرتها سابقا وبالتفصيل، مما جعلهم يشعرون بأن هذا الوضع لن يستمر طويلا، وانهم اذا لم يتحركوا فإن غيرهم في الجيش سيسبقهم لوضع يده على مقاليد الحكم في سورية.

لقد كان جمال عبد الناصر مطلعا على المأزق الذي كان ضباط النحلاوي يتخبطون فيه، فحاول استغلاله والاستفادة منه لا لاعادة الوحدة التي أجمعت المصادر على عدم اقتناعه بقيامها من جديد، بل لزعزعة الوضع في سورية وللانتقام من ضباط النحلاوي والأحزاب السورية مما يعيد له اعتباره كزعيم للمنطقة على المستوى العربي والدولي، وقد استخدم لتنفيذ هذه المهمة أحد وزرائه في حكومة الوحدة فريد زين الدين الذي تجمعه صلات حسنة مع عبد الكريم زهر الدين وبعض الضباط ومع حركة القوميين العرب، كما كان قريبا لليمين الدمشقي حيث أنه كان صهرا لعائلة العظم، وقد كشفت مذكرات عبد الكريم زهر الدين مراحل هذه الاتصالات التي جرت قبل انقلاب 28 آذار 1962 :

"كانت القيادة تبدي أسفها لفقدان الوحدة مع مصر وكانت تفتش عن الوسيلة التي تمكنها من اعادة الوحدة ولكن بشروط تحول دون انحرافات الوحدة السابقة".

"ولذلك وبعد الدراسات المتتالية والاجتماعات التي كنا نعقدها أحيانا مع هاني الهندي (من القوميين العرب) وفريد زين الدين وغيرهما من العناصر الوحدوية قررنا أن نخطو الخطوة الأولى ونرسل وفدا من الضباط لمقابلة الرئيس عبد الناصر والتداول بالمواضيع العامة والمتعلقة بالأخطاء التي ارتكبت في زمن الوحدة، وكان ما طلبناه من الوفد هو معالجة الأمور التالية :

1- وقف المهاترات الاذاعية فورا.

2- الاعتراف بالوضع الحالي في سورية ليصار الى معاجلة عودة الوحدة على أسس جديدة.

3- عقد اتفاق عسكري مشترك ما بين مصر وسورية لتطبيق الخطط العسكرية الموضوعة اثناء الوحدة.

4- تصفية الامور الادارية المعلقة بين سورية ومصر (أسلحة وغيرها).

لقد قررنا تشكيل هذا الوفد من العناصر التي ساهمت بـ 28 ايلول وذلك للدلالة على سلامة النية وصدق الطوية ، وقد وافق رئيس الجمهورية على هذه الخطوة .. إلا أن الوفد سافر فجأة دون علمي ودون علم رئيس الجمهورية بل بإيعاز من عبد الكريم النحلاوي الذي أهمل رغبة رئيس الجمهورية عندما رغب بالاجتماع الى الوفد قبل سفره الى القاهرة"(ص 164).

وهكذا يظهر ان هدف عبد الكريم النحلاوي وضباطه كان التفاهم مع عبد الناصر بمنأى عن قائد الجيش زهر الدين وجماعته وعن رئيس الجمهورية ناظم القدسي، ولو كتب لانقلاب 28 آذار 1962 النجاح لكانت الخطوة الثانية بعد حل المجلس النيابي واعتقال رئيس الجمهورية متابعة التصفيات في الجيش والاستغناء عن قيادة زهر الدين والضباط الموالين له.

ويقول زهر الدين أيضا في مذكراته :

"كنا نعقد اجتماعات طويلة وعديدة في مكاتب القيادة، كما عقدنا اجتماعا في منزلي ضم العناصر التالية : اللواء زهر الدين، الواء نامق كمال، المقدم عبد الكريم النحلاوي، المقدم مهيب الهندي، المقدم هشام عبد ربه والرائد فايز الرفاعي (وكل هؤلاء من الضباط الذين خططوا وشاركوا في انقلاب الانفصال 28/9/61) والاستاذ نهاد القاسم والدكتور فريد زين الدين".

ثم يستطرد زهر الدين معترفا باتفاقهم على انقلاب 28 اذار بعد التفاهم مع القاهرة :

"وقد تداولنا موضوع التقارب مع القاهرة ودرسنا مسألة اعادة الوحدة حتى لو أدى ذلك الى انقلاب جديد" (ص 190).

وفد عبد الكريم النحلاوي الى جمال عبد الناصر :

في عام 1988 كشف حسنين هيكل في كتابه سنوات الغليان أن وفدا من ثلاثة من قادة الانفصال زاروا جمال عبد الناصر في بيته، وهم العقيد زهير عقيل والعقيد محمد منصور والرائد فايز الرفاعي بتاريخ 13/1/1962 ويروي حسنين هيكل - عن تسجيل صوتي كما يقول - الحديث الذي جرى بينهم وبين عبد الناصر وهذه خلاصته :

فبعد اعتذار الوفد عن انقلاب 28 أيلول، وبعد التوسلات للصفح والغفران، وبعد تأكيد الضباط على تمسكهم برئاسة جمال عبد الناصر مستشهدين بعبد الحكيم عامر، وبعد استعراض مخاطر اسرائيل على سورية، وبعد أن دغدغ ناصر عواطف وطموحات هؤلاء الضباط واصفا تصوراته فيما لو قام انقلاب وحدوي في سورية يعيد الوحدة فورا بقوله :

"سوف تلتهب الجماهير العربية حماسة .. القوى الاستعمارية المتربصة سوف تتلقى صفعة العمر .. الرجعية سوف تفقد صوابها .. اسرائيل ستجد نفسها امام اكبر خيبة منيت بها .. إنني أكاد الآن أسمع المنطقة كلها تهدر وأكاد ألمح الجموع الشعبية تزحف رافعة أعلامها" بعد ذلك كله ينهي عبد الناصر حديثه بإشارات صريحة إلى ما يود أن يقوم به ضباط النحلاوي كشروط مسبقة للاتفاق معهم :

"أنتم تريدون عودة الوحدة في شكل جديد .. لقد قلتم هذا الآن وأنا أيضا أرى مثل هذا الرأي ، أنا الآخر أطالب بشكل جديد للوحدة".

"إننا في حاجة الى أن ندرس كل ما حدث ونتفهم معانيه، ان ذلك سوف يفرض شكلا جديدا للتجربة وكل هذه أمور تستحق الدراسة بل وتتطلبها كضرورة حيوية للنجاح، ثم هناك مسائل أخرى أقولها لكم بصراحة بينها النظام الاجتماعي انني لا أتصور أن تقوم وحدة بين مصر وسورية وتكون القاهرة اشتراكية بينما دمشق رأسمالية، كذلك بينها مسألتكم أنتم، مسألة الجيش في أي دولة، هل تتلقى الدولة من الجيش أوامرها أم الجيش يتلقى من الدولة أوامره؟

كل هذه مسائل لا بد أن ندرسها وهي ما لا يمكن أن تتم بالانقلاب وإنما بحثها بين حكومات وطنية تلتقي في الهدف وتتحد عليه".

وهنا يسأله الضابط فايز الرفاعي مستعجلا الانقلاب ومتصورا بسذاجة إمكان الحصول على فتوى صريحة بذلك من عبد الناصر :

سيدي الرئيس ، وهل ننتظر الأخطار المحيطة بسورية خصوصا من جانب اسرائيل حتى تجيء الفرصة لاقامة حكومة وطنية في سورية تتذاكر معكم في هذه الأمور كلها؟

ولكن عبد الناصر يتهرب من الجواب واعدا اياهم بأنه لن يترك سورية وحدها في حالة العدوان الاسرائيلي وينهي الجلسة بقوله :

"لقد جعت هل تتعشون معي؟" (ص 577 - 585).

ويعود الضباط الثلاثة الى سورية ويبدو أنهم فهموا أن عبد الناصر سيتفق معهم في حالة إطاحتهم بالنظام القائم في سورية وإلا لما تجرؤا على القيام بانقلاب 28/3/1962، ولكنهم كانوا بالغي السذاجة عندما تصوروا أنه قد صفح عنهم، فلقد كان الدعم الاعلامي من اذاعة القاهرة واضحا وقويا للضباط الذين قاموا بعصيان حلب وكانت الأحداث قد رتب لها أن تكون كالتالي :

أن يقوم ضباط الانفصال أنفسهم بالمرحلة الأولى من الانقلاب في دمشق وهي حل المجلس النيابي والقضاء على الحياة الديموقراطية، وان تكون المرحلة الثانية هي استيلاء الضباط الناصريين على الحكم بقيادة جاسم علوان بواسطة الحركة التي قاموا بها في حلب، ولكن الذي افسد هذه الخطة هو مؤتمر ضباط الجيش في حمص الذي أعلن المؤتمرون فيه أنهم ليسوا أوصياء على الشعب، وقرروا ترحيل ضباط الانفصال من دمشق ومقاومة المتمردين في حلب.

وإلى خطة الانقلاب الناصرية المزدوجة يشير صراحة الفريق لؤي الأتاسي (ناصري) رئيس الدولة السورية بعد انقلاب الثامن من آذار معتبرا اياها عملية واحدة، وذلك في محادثات الوحدة الثلاثية مع عبد الناصر عندما يقول :

"عملية 28 آذار وما قابلها في حلب" كانت عملية ناجحة مئة بالمئة .. ولكن سبب الفشل هو التخطيط الخاطئ من الجماعة المتصلين بالسفارة (المصرية) لأنهم تعاونوا مع بدر الأعسر" (ص63). ويقصد الأتاسي جماعة العقيد جاسم علوان(1) الذي كان على رأس تمرد حلب لأن هؤلاء اتصلوا مع العقيد بدر الأعسر قائد المنطقة الوسطى في حمص حيث انعقد مؤتمر الضباط الذي قرر الوقوف في وجه انقلابيي دمشق وحلب في آن واحد.

ان الذي فشل عمليتي دمشق وحلب في آن واحد ليس بدر الأعسر كما يقول لؤي أتاسي في المحادثات وانما الاتجاه العام في الجيش الذي لم يكن ناصريا بحال من الأحوال والى ذلك يشير زهر الدين في مذكراته :

"أما الاجتماع الآخر فقد عقد برئاستي، وقد استدعيت لحضوره المسؤولين في الجيش، وذلك على صعيد القيادة العامة وصعيد القطعات المحاربة، وصعيد قيادة المناطق والمصالح ومدراء المدارس العسكرية، ولا أزال أذكر من الذين حضروا هذا الاجتماع الذي عقد ليلا في مدرسة المدرعات كلا من : اللواء زهر الدين العميد مسلم صباغ، العميد عدنان عاقل، العميد زهير عقيل، العقيد زياد الحريري، العقيد تيسير الطباع، العميد محمد عودة، العقيد عبد الكريم العابد والعقيد عدنان الشويكاني، العقيد محمد منصور، المقدم عبد الكريم النحلاوي، المقدم مهيب الهندي، المقدم هشام عبد ربه، والرائد فائز الرفاعي، وقد حضر هذا الاجتماع كثيرون غيرهم، غير انني لم أعد أذكر أسماءهم.

لقد استعرضنا في هذا الاجتماع موضوع اعادة الوحدة فأدلى العقيد شرف زعبلاوي نائب رئيس شعبة المخابرات برأيه القاضي بضرورة القيام بانقلاب تعود على أثره الوحدة الفورية، واستند بذلك على الموقف الذي وصفه بأنه خطر، اذ قال بأن الجيش بكامله ناصري وان الشعب بنسبة 90% ناصري، ولذلك فهو يقترح سرعة القيام بهذه الحركة خوفا من المد الناصري، الذي قد يطيح بنا بصورة فجائية.

وهنا تعالت أصوات الاحتجاجات فتدخلت بالموضوع وأعدت الهدوء وقلت إذا اتضح لنا بأن كلام المخابرات واقعي فيجب الاسراع بالانضواء تحت لواء الوحدة الفورية، اما اذا ثبت لنا بأن تلك الأقوال غير مضبوطة فينبغي تحاشي الاصطدامات التي قد تنشأ من جراء القيام بأية حركة لا تكون الاكثرية مؤمنة بها.

ووجهت سؤال الى قادة القطعات المحاربة فيما اذا كانوا يؤيدون قول شعبة المخابرات من أن الجيش بكامله ناصري. وقد سألتهم واحدا واحدا فكانت اجاباتهم نافية نفيا قاطعا لحديث المخابرات، وخاصة زياد الحريري، الذي استهجن هذا القول، وأكد بأن لواءه خال من أي ناصري .. ثم سألت قادة المناطق عن الناحية المدنية فاستنكروا قول شعبة المخابرات وقالوا بأنه خال من الصحة .. وأخذنا جميعا باستعراض مختلف فئات الشعب حيث قلنا بأنه لا يمكن أن تكون النسبة التي حددها نائب رئيس شعبة المخابرات مضبوطة، اذ ان الشيوعيين غير ناصريين، وجماعة أكرم الحوراني غير ناصريين والمسيحيون غير ناصريين والاخوان المسلمون غير ناصريين والتجار غير ناصريين ورجال الصناعة والاقتصاد غير ناصريين، كما أن النسبة الكبرى من الفئات الأخرى كالعمال والفلاحين والطلاب غير ناصريين، ولذلك لا يمكن أن تكون أقوال شعبة المخابرات صحيحة". (ص 193)

تصوري لمستقبل العمل السياسي في سورية بعد انقلاب 28/3/62 :يتبع...

المصدر :مذكرات أكرم الحوراني